لا معنى للخيبة، إن لم تكن العلاقة مشروطة، وشروط العلاقات الإنسانية ضمنية، لا يفكّر فيها الناس عادة في بدايات العلاقة أو أثناءها إلا عند حصول ذلك الذي نسميه بـ “الخيبة”.
الخيبة باختصار هي خرق الشرط الضمني الذي نؤسّس عليه علاقتنا، ولأنّ الأمر بدهي للغاية، غائر في عمق الوعي حتى النهاية، فإنّ الوعي منصرف منذ البداية عن التفكّر فيه، ولو قلنا لاثنين بينهما ودّ وافر، علاقتكما مشروطة لأنكرا، لكن لا كذبًا، وإنّما لعدم تفكّرهما فيما هو حاصل بالبداهة، إنما الذي يلتفت للشرط من البداية هو الذي يقيم العلاقة بقصدية الانتفاع الواضح والصريح، وهذا الذي يسمّيه الناس “الانتهازي”، أو فيما هو قائم على علاقات الحاجة التبادلية فيما ليس أساسه الحبّ، وهذا أمر آخر لا علاقة له فيما نحن بصدده.
هذا يعني أنّ الناس، في العلاقات الودّية، ومن باب أولى علاقات الصحبة، الأمومة، العشق.. في الغالب، لا تقيم العلاقة بقصدية الانتفاع المباشر والصريح، ولكنها تطوي على شرط بدهي يمكن لنا تسميته بـ “التوقّعات”.
لماذا تغضب الوالدة من ابنها، وعلاقة الأمومة لا تبدو مشروطة أساسًا؟! لأنّه خالف توقّعاتها، -التي لم تفكّر فيها من قبل- فيما تطنّه حقًّا لها على ابنها. هذه أنبل العلاقات وأطهرها وأكثرها تضحية وإيثارًا تنهض فيها التضحية على شرط ما، فكيف بما دونها!؟
الصاحب الذي يبذل نفسه ووقته لصاحبه، بلا حساب، فجأة يختلف على صاحبه، في لحظة ما، إن قصّر صاحبه معه حينما احتاجه، أو إذا تبيّن له أنّ صاحبه نكّار غير وفي، هنا سوف يتذكّر الصاحب الأوّل كلّ ما قدّمه لصاحبه الثاني بالرغم من أنه كان يعتقد طوال الوقت أنّه كان يفعل المعروف مع صاحبه حبًّا وودًّا وإيثارًا دون رجاء مقابل! لكن ها هو يرجو المقابل!
العشق، بقطع النظر عن تفسيره، فلنقل إنّه المشاكلة، في أعلى مراتب التفسير الغيبي، أي عود الأرواح المتآلفة من عالم الذرّ إلى التلاقي في هذا العالم. ستكون العلاقة، والحالة هذه، قهريّة، تستكمل فيها النفس ذاتها، وترى ذاتها في الشكل المفقود من قبل الأزمنة. لا رؤية بأوّل النظر للشرط. لكن الشرط هنا أعظم، فثمّة طلب للأنس، وطلب لاستكمال الذات، ومن ثمّ فالخيبة أكبر لأنّ الشرط، والحالة هذه، مركّب من شرط على النفس وشرط على المعشوق، فالخيبة من النفس بقدر ما هي منه، وهذا كاشف عن أنّ علاقة المرء بنفسه مشروطة كذلك!
التسامح، أوضح ما يمكن أن يظهر فيه شرط العلاقات الإنسانية، فأنت حينما تغفر موقفًا مؤذيًا، تفعل ذلك متوقعًا أنّ هذا المؤذي لن يعود إلى أذيّتك من جديد، أو أنّه أدرك حقيقة ما أوقعه عليك من أذى فسوف يراعي ذلك في علاقته بك تاليًا. سوف تعتقد أنّك نسيت، لكن في لحظة ما حينما يعود للخطأ في حقّك سوف تتذكّر كل ما توهّمت أنك نسيته. هذا لا يعني أنّك غير متسامح، وإنما أنّك كنت غافلاً عن كون التسامح مشروطًا.
ذات مرّة خرجت من السجن فوجدت شابًا أصغر مني ببضع سنين معرضًا عنّي، كنت قد اهتممت به في واحد من اعتقالاتي أكثر من غيره. فهمت فيما بعد أنه توقّع منّي أن أواسيه في مصاب اجتماعي فادح ألمّ به، وأن أنصفه ممّن أوقع عليه ذلك. قلت له: أنت لم تضع نفسك مكاني وأنا خارج لتوّي من السجن، فكيف أفهم مصابك فضلاً عن أن أواسيك وأنت ترفض الحديث معي؟! ثمّ كيف تتوقع أنّي أملك من الطاقة النفسية فور خروجي من السجن ما يحملني على القيام بكلّ ما توقّعته منّي؟! ولِمَ تعتقد أنّه يحقّ لي تقريع من أوقع عليك ذاك الهمّ في قضية اجتماعية كنت أقرب على أصحابها منّي ولم تستشرني في رغبتك القرب منهم!
في هذا الموقف المختصر عدّة قضايا كاشفة:
– الأولى أنّ الصديق لم يضع نفسه مكاني ليعرف قدرتي ويقدّر استطاعتي، في حين أنّه توقع أن أضع نفسي مكانه رغم سجني وبعدي! التوقّع هنّا مختلّ، لأنّه لا يراعي الشرط الأساس للأخلاق المعبّر عنه بالحديث النبوي: “لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحب لنفسه”. (البخاري ومسلم).
– الثانية أنّ سقف التوقّعات، لم يكن واقعيًا، لأنّه انبنى على تصوّر ربما لم أتصوّره عن نفسي، وهو أنّني في موقع من المثال والقدوة بحيث لا ألتفت فور خروجي من السجن لنفسي وإنّما لإخواني، وأنّني في مكانة أو منزلة تخوّلني تقريع من أشاء إذا أخطأ. والحقّ أنه ليس أكره على نفسي من أن يراني أحدٌ قدوة أو مثالاً، لعلمي بضعف حالي. هنا سقف التوقّعات العالي المؤسَّس على رؤية مفرطة في الاحترام والتقدير أفضى إلى خيبة غير مبرّرة وإن كانت مفسّرة. وهو الأمر الذي يقصده الأثر: “أحبب حبيبك هونا ما ، عسى أن يكون بغيضك يوما ما ، وأبغض بغيضك هونا ما، عسى أن يكون حبيبك يوما ما”، (أخرجه الترمذي عن أبي هريرة مرفوعًا للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، وأشار لطريقه الأخرى عن عليّ مرفوعًا وموقوفًا، لكنّه صحّح وقفه على عليّ).