في أيار/ مايو 2021، انبثقت ميادين فلسطين عن أكبر هبة شعبية منذ انتفاضة الأقصى تزامنت مع معركة عسكرية خاضتها فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة باقتدار ميداني، وفتحت مرحلة جديدة في الصراع مع الاحتلال، ما زالت نتائجها في طور القراءة والتثبيت من جانب مختلف الأطراف.
هذا التجدد في الانتفاض الشعبي في الضفة المحتلة وفي الأراضي المحتلة عام 1948، خاصة في المدن التي كانت المستويات الأمنية والسياسية في دولة العدو تعتقد أنها تحت السيطرة، كان أحد أهم النتائج العملية التي أسفرت عنها معركة “سيف القدس”، لكن السؤال الذي ما زال حاضراً بعد سلسلة الهبات الشعبية منذ عام 2014، كيف يحافظ الشعب الفلسطيني على استمرارية العمل الثوري على شكل “فعل يومي”، وما هي الوسائل التي تضمن تحقيق هذا الهدف على المدى البعيد؟.
عن الحاجة للتنظيم السياسي
تؤكد لنا تجارب السنوات الماضية في الصراع بين المجتمع الفلسطيني ودولة العدو، على الحاجة إلى شكل من “التنظيم السياسي” يستثمر الهبات التي تشتعل بين حين وآخر، في سياق المواجهة الطويلة لكسر المشروع الاستعماري، والتعلم المستمر من التجارب الثورية لتطوير أشكال جديدة من المواجهة تتناسب مع الظروف الأمنية والسياسية الفلسطينية.
المعركة الشعبية التي خاضتها الجماهير الفلسطينية خلال “معركة سيف القدس”، استمرت آثارها طويلاً ويمكن تلمسها في ظواهر جديدة برزت على الساحة النضالية الفلسطينية مثل “كتيبة جنين”، التي بدأت بمبادرة فردية وتطورت لاحقاً إلى إطار تنظيمي أوسع يضم مزيداً من الكوادر المتعطشة لمقاومة الاحتلال، هذا الاستثمار الإيجابي في نتائج المعركة، يؤكد الحاجة للتنظيم السياسي الذي يبقي على الطاقات الشعبية الفلسطينية حية ويوجهها نحو مختلف ملفات الصراع مع الاحتلال، مثل الاستيطان ومعركة التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى.
التاريخ الثوري الفلسطيني: تنوع في التجارب التنظيمية
منذ بدايات الحملة الاستعمارية الحديثة على أرض فلسطين، عرف النضال الفلسطيني أشكالاً مختلفة من “التنظيم السياسي”، ويخبرنا التاريخ أن المجتمع الفلسطيني تكيَف في كل مراحل النضال مع أنماط مختلفة من العمل السياسي وحاجاته من أدوات التنظيم السياسي، من الخلايا الصغيرة والتنظيم الثوري الطلائعي (حركة الشيخ عز الدين القسام مثالاً) إلى الأحزاب العلنية و”العمليات الفردية” وغيرها.
تظافرت أوضاع ميدانية وسياسية مختلفة في صياغة الفلسطيني للإطار التنظيمي الذي مارس من خلاله العمل الثوري ضد المنظومة الاستعمارية، وكان التعلم من الخطأ دليلاً إرشادياً للقوى المقاومة في المجتمع للتبديل المستمر في خياراتها بين أشكال التنظيم، وسعت النخب الثورية في مختلف التنظيمات للتعلم ونقل تجارب الحركات التحررية التي نهضت في العالم، في بدايات القرن العشرين، يمكن العودة إلى الأدبيات الأولى للثورة الفلسطينية والنظر في تأثرها بالتجربة الجزائرية والفيتنامية وغيرها.
استقر النمط التنظيمي الفلسطيني في صورته الأعم، منذ بدايات الثورة الفلسطينية المعاصرة، على التنظيم الهرمي الذي تنتظم فيه القضايا الإدارية بمختلف أشكالها إلى هيئة عليا (تختلف مسمياتها من تنظيم إلى آخر) ثم هيئات تتدرج إلى الأسفل حسب تخصصاتها، كانت الحاجة إلى هذا الشكل من التنظيم تأتي في سياق توفير أكبر مساحة من حماية العمل الثوري من ضربات الاحتلال الأمنية والعسكرية، وخلق مساحة أسهل في نقل القضايا التنظيمية والإدارية بين مختلف مستويات التنظيم، وجذب العناصر والكوادر الأكثر قدرة على الانخراط في العمل ضد العدو، وبث خلايا طليعية بين المجتمع تكون مهمتها تثوير الناس ضد سلطات العدو وقواته.
هذا التركيز على شكل (التنظيم الهرمي) لم يمنع ظهور سياقات أخرى في العمل السياسي والاجتماعي الفلسطيني، خاصة داخل الأرض المحتلة في الفترة التي سبقت انتفاضة الحجارة، تزامنت محاولات التنظيمات الفلسطينية لبناء خلايا ثورية في الأرض المحتلة، مع صعود مؤسسات اجتماعية ونقابية مختلفة، شاركت في النضال ضد العدو الإسرائيلي، وكان لها مساهمتها الجوهرية إلى حد ما في فعاليات الانتفاضة الأولى. وبقيت ثقافة (التنظيم الهرمي) سائدة في العقل السياسي الثوري الفلسطيني حتى لحظة كتابة هذه السطور، وإن تصاعدت في السنوات الماضية أنماط جديدة يتمحور بعضها حول عمل النشطاء (الأفراد)، لكنه يستند دون شك إلى البنى الاجتماعية للتنظيمات الفلسطينية وثقافتها الثورية وتأثرها بتجربة المقاومة الفلسطينية في غزة.
تجربة “التنظيمات الهرمبة” بعد الانتفاضة
تعرضت التنظيمات الفلسطينية وقواعدها الاجتماعية، لحملة “تجريف” واقتلاع أمني وعسكري على مستويات مختلفة، منذ بدايات انتفاضة الأقصى. الاستنزاف الشديد في المعركة بين التنظيمات والأجهزة الأمنية والعسكرية لدولة العدو، انعكس على قدراتها في الحركة داخل المجتمع، في ظل تظافر هجمة الاحتلال مع الحملة الأمنية للأجهزة الأمنية الفلسطينية على الحياة السياسية عامة وتنظيمات المعارضة خاصة حركة حماس، وتوسعت الحملة في السنوات الأخيرة لتشمل تنظيمات أخرى.
لم تمنع الحملة الاستئصالية لتنظيمات المقاومة من استمرار السعي لتجديد الأطر التنظيمية، ووثقت مؤسسات الأسرى منذ عام 2007 اعتقال آلاف الفلسطينيين على قضايا مختلفة أبرزها محاولات لإعادة إحياء العمل التنظيمي في شقيه السياسي والعسكري، وحكمت الاحتلال العسكرية بمئات السنوات من السجن على نشطاء من مختلف التنظيمات، شاركوا في التخطيط أو التنفيذ أو التواصل لإعادة هيكلة العمل العسكري والسياسي في الضفة والقدس المحتلتين.
الإشكالية الأبرز في استمرار التنظيمات اعتماد “التنظيم الهرمي” كأداة رئيسية في تجنيد الكوادر وتأطير الفعل السياسي والعسكري، هي في قدرة الأجهزة الأمنية والسياسية لدولة العدو على فهم مسارات حركة التنظيمات، بالاستناد إلى تجربة طويلة في القمع والحرب على البنى التنظيمية الفلسطينية، بالإضافة لتسخير أجهزة الاحتلال وسائل تكنولوجية متقدمة في الحرب الاستباقية على المقاومة.
“استثمار ظاهرة الحراكات الشبابية”
وهنا تجدر الإشارة إلى أن العمليات الناجحة التي أنجزتها خلايا المقاومة، بالإضافة للعمليات الفردية، أسهمت في إعادة المواجهة إلى الشارع الفلسطيني، ويمكن التدليل عليه في تجربة عملية “إيتمار” قبل انطلاق موجة المواجهات والعمليات الفردية في عام 2015، وعملية الشهيد مهند الحلبي حينها، ومؤخراً عملية “حومش”. هذا التلازم بين العمليات واشتعال الشارع الفلسطيني مجدداً، يشير إلى العلاقة التشاركية بين التنظيمات وقوى المجتمع الطامحة إلى ممارسة المقاومة، وهو ما يمكن من خلاله توسيع التفكير في طرق تنظيمية أكثر تكيفاً ومرونة للتملص من إجراءات الاحتلال ضد المقاومة، خاصة مع ما نلمسه في السنوات الأخيرة من سرعة في الوصول إلى منفذي العمليات.
تصاعدت في السنوات الأخيرة ظاهرة “الحراكات الشبابية” التي تنوعت خطاباتها وأهداف انطلاقتها، وكانت السمة الأبرز لها هي التحلل بشكل عام من “القيود التنظيمية” المعتادة في الأحزاب والحركات، حققت الحراكات نجاحات يمكن تسميتها ب”المرحلية” في سياق القضايا التي تفاعلت معها، وكان لها دور في جذب طبقات من المجتمع الفلسطيني بقيت بعيدة عن الالتزام المباشر بالتنظيمات، لأسباب أيدلوجية وسياسية مختلفة، وإن كانت في غالبها الأعم قريبة من الطبقات الاجتماعية التي رفدت التنظيمات بالكوادر طوال تجربتها النضالية.
تجربة الحراكات “المرنة والمتحررة من القيود التنظيمية”، لها سلبياتها أيضاً كما تخبر تجربة السنوات السابقة، فهي وإن كانت أقدر على التجمع والحركة في الميدان، إلا أنها أسرع من التنظيمات التي تعتمد “التعبئة السياسية والفكرية والتاريخية” في تنظيم الكوادر، في الانفراط أمام الضربات والملاحقات الأمنية، وهذا يمكن الاستدلال عليه في تجربة “حراك رفع العقوبات عن قطاع غزة” أو التظاهرات التي انطلقت عقب اغتيال المناضل نزار بنات.
تحصين العمل الثوري من الاستنزاف الأمني والبشري، قد يحتاج في المرحلة الحالية من الصراع إلى المزاوجة بين مرونة الحراكات والعمل التنظيمي السياسي الذي يستند إلى تجربة وإرث وجهود الحركات والأحزاب الفلسطيني، وهو أمر بحاجة إلى مزيد من التفكير، وقد تبرز تجلياته في “جبهة وطنية واسعة” تضم كوادر من تنظيمات مختلفة ونشطاء خارج الأحزاب، على قضية متفق عليها، يجري النضال في إطار واسع من الخيارات التي تشتت الأجهزة الأمنية للعدو وتجعل آفاق التفكير والحركة في الميدان أكثر اتساعاً.
يتعلم الفلسطيني ليس من جيبه فقط، كما يقول المثل الشعبي الشائع، بل من “دمائه وسنوات عمره” لذلك تصبح الحاجة إلى دراسة التجارب الثورية والتعلم المستمر منها، قضية استراتيجية تمس بمستقبل المقاومة، وتخبرنا تجارب السنوات الأخيرة أن بناء شكل من التنظيم السياسي يقود النضال ضد دولة العدو، حاجة تحتل مرتبة الضرورة، وأن حضور المناضل الميداني في الواقع الفلسطيني أمر لا يجب التنازل عنه لصالح أدوات وسائل التواصل الاجتماعي.