أول أمس شهدت الميادين الفلسطينية في الضفة وغزة تطوراً مهمًّا، تمثّل في تصدير حالة رفض شعبية وفصائلية واسعة للاعتقالات السياسية التي تمارسها أجهزة السلطة التابعة لحركة فتح في الضفة الغربية، بعد حالة من التغوّل الأمني الواسع، كرستها الأجهزة مؤخراً، بالتزامن مع عدوان الاحتلال المتصاعد على الضفة الغربية، ومع تنامي مسار المقاومة، وتنوع أساليبه، وتوزعه على مختلف مناطق الضفة، وتوجهه نحو النوعية والتنوع، وهو ما يشي بإمكانية تطوره المتسارع، لو كانت الظروف الميدانية الأمنية أفضل، ولو لم تكن المقاومة تواجه استنزافاً متواصلاً على جبهتين، هما الاحتلال والسلطة.
ولكن لعلّ مصطلح (الاعتقالات السياسية) بات بحاجة إلى إعادة تعريف، كونه يوحي بأن الاعتقالات التي تمارسها السلطة تطال أصحاب الرأي أو النشاط السياسي فقط، ذلك أن ما يجري حقيقة هو استهداف لمجمل الحالة الوطنية في الضفة الغربية، فالنشاط الوطني مغيب وملاحق وشبه محظور، وهذا النشاط يدخل ضمنه العمل المقاوم، بشقيه الشعبي والمسلح، والعمل الجماهيري المدني، كالنشاط الطلابي والإغاثي والدعوي والإعلامي والتنظيمي، فليس مسموحاً في الضفة بأي عمل تنظيمي إلا لحزب السلطة، أي حركة فتح، أما بقية الفصائل وخاصة المقاومة، فهي محظورة عمليًّا ومُلاحقة على صعيد التنظيم والتمويل، وفي المؤسسات والنقابات والجامعات.
ونتيجة لكل ذلك ظلت الضفة الغربية تتعثر الخطى في محاولات نهوضها واستنهاضها المختلفة، وظل القمع والإقصاء سياسات مركزية لدى السلطة، لكن الخطير في الأمر أن تصبح المقاومة مستهدفة بمثل هذه الحدة، ليس فقط بسبب التزامات التنسيق الأمني التي لا تستطيع السلطة الانفكاك عنها، إنما أيضاً لأنها باتت ترى في المقاومة مهدداً أساسيًّا لمشروعها السياسي ولحظوظ سلطتها وهيمنتها، كون استقرار السلطة واستمرار دعمها مقترنين بمدى نجاعة أدواتها في تسكين الضفة الغربية وصرف اهتمام الناس عن فكرة المقاومة.
غير أن حالة مواجهة الاحتلال التي تتجذر في الضفة الغربية منذ عامين باتت تبدو غير قابلة للاحتواء أو التطويع أو التصفية، فهي تتقدم ولا تتراجع، حتى في ظل عدوان الاحتلال المتواصل واغتيالاته الواسعة للمقاومين، ولهذا لم تجد أجهزة السلطة مناصاً من مواجهة الحالة المقاومة بنفسها، وتنفيذ اعتقالات ومداهمات وعمليات مصادرة للعتاد والسلاح، غير آبهة بتضرر سمعتها أو بالتآكل المتزايد في شعبيتها، فالوجود لديها مقدم على كل الاعتبارات، حتى وإن كان الوجود مستنداً إلى حماية الاحتلال، وهو الذي كان من ضمن أهداف عدوانه الأخير على جنين إعادة أجهزة السلطة للسيطرة على المخيم، لإدراك الاحتلال بأن السيطرة المطلقة للسلطة والقبضة الأمنية العاتية يعنيان تلقائيًّا انكفاء المقاومة وتراجعها.
اعتادت السلطة دائماً على نفي وجود الاعتقالات السياسية، وتقديم مبررات لكل حالة، فاستهداف حماس يتم بذريعة (منع الحركة من السيطرة على الضفة)، واستهداف بقية المقاومين يتم بذريعة التهم الجنائية، بل إن الأجهزة الأمنية اعتادت بالتعاون مع النيابة على تلفيق اتهامات مكذوبة للمعتقلين، تصل أحياناً إلى محاولات تشويه السمعة، أو الادعاء بحيازة السلاح والتخطيط للانقلاب، وهي كلها اتهامات مكذوبة لا تتقاطع مع الحقيقة في نقطة واحدة.
لكن هذه الذرائع المتهتكة لم تعد تلقى مصدِّقاً في أوساط شعبنا، فالعدوان يتسع ويطال شرائح واسعة ومن خلفيات فصائلية عديدة ومجالات نشاط مختلفة بدءاً بالمقاومين وليس انتهاءً بطلاب الجامعات وأصحاب الرأي.
والنتيجة الطبيعية لكل هذا أن يتفجر غضب الشارع الفلسطيني على هذه السلطة، وأن يدوس على كل دعاياتها المغرضة والخرقاء، فهذه الأجهزة لا تكتفي فقط بالتخاذل عن حماية الناس أمام اعتداءات الاحتلال، بل تريد منع كل حالة للمقاومة، فلا هي تقاوم ولا تريد لغيرها أن يقاوم، وفوق كل هذا تعتقل من ينتقدها مفترضة أنها يجب أن تظل تحظى بالمهابة والتقدير في أوساط الناس، وأن تصنف بأنها حامية المشروع الوطني، فيما هي لا تنفك عن توجيه ضربات قاتلة لبنية هذا المشروع.
الجماهير التي خرجت غاضبة ورافضة استهداف المقاومة تعي تماماً حقيقة دور هذه السلطة، ولذلك كانت العبارة الذهبية في تلك التظاهرات: (لا تحمونا ولكن حلوا عنا).. لكن ثمة غضب ووعي ما يزال يتفاعل في أوساط أكثرية الجمهور الفلسطيني، وهو يتابع مشاهد الإجرام اليومية في الشوارع والسجون، والاستقواء على الناس، مع الانسحاب أمام الاحتلال، وهذا الواقع لم يعد إنكاره مقتصراً على فصيل بعينه، بل بات الإنكار يمثل ضمير غالبية الجمهور في مقابل فئة معزولة شعبياً لكنها تستقوي بأدوات السلطة والبطش وبتحكمها بأقوات الناس، وبالاطمئنان إلى دعم الاحتلال لها.
في كل الأحوال، فإن السلطة اليوم تقامر بمستقبلها السياسي، وهي تصرٌ على نهجها الكارثي، وتعرض عن قراءة رسائل الشارع وتطوراته، في وقت ما عاد ممكناً إعادة عقارب الساعة إلى الوراء ولا النجاح في الاستمرار في تسويق روايات التدليس والتزييف المعهودة، فدور ووزن كل طرف في العادلة الفلسطينية بات واضحاً، وبناء عليه ينتج الفرز، كلّ حسب دوره، وموقعه من مسار المواجهة.