نَشْرُ رادارات إسرائيلية، في دول عربية، ذُكِر منها الإمارات والبحرين، يعني بالضرورة أن التحالف الشرق أوسطي بين دول عربية و”إسرائيل” قائم بالفعل، ويستند في مرحلته الأولى إلى عنصرين، الأول القيادة الإسرائيلية، والثاني تحديد العدوّ، الذي هو، والحالة هذه، إيران، المسبوقة من خصومها، كما يبدو، بخطوات قد تجعل قدرتها على المناورة أقلّ، لا سيما وهي تستهدف اليوم في فضائها الحيوي، منطقة الخليج، ومحاولة انتزاع العراق لصالح هذا التحالف، فضلا عن الاستهداف الإسرائيلي اليومي لسوريا، وتدميره مرافقها الحيوية، ذات الصلة بالإمداد اللوجستي والعسكري للوجود الإيراني في سوريا.
التمدد الإسرائيلي في الفضاء العربي على هذا النحو ليس جديدا، ولم يبدأ مع حقبة ترامب، بالرغم من أن تلك الحقبة قد أخذت تدفع أسرع نحو هذا التحالف الشرق أوسطي، بالنصّ عليه صراحة في البيان الختامي لقمة ترامب في الرياض في أيار/ مايو 2017، دون تسمية “إسرائيل” طبعا. “سيناريو كهذا لا يمكن أن يكون وليد ذهنية ترامب الانطباعية، بل هو أقرب ما يكون إلى نمط تقليدي في السياسات الأمريكية، لا سيما في الموقف من إيران، وفي دعم “إسرائيل”، ما يرجّح أن تكون أوساط في المؤسسة تدفع للاستفادة من الممكنات التي تتيحها الطبيعة الشعبوية للرئيس الجديد، والأفكار اليمينية لبعض أركان فريقه؛ لإعادة رسم السياسات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط”.. ذلك ما كنتُ قد ذكرتُه قبل هذه القمة بشهور، في مقالة لي منشورة في 31 كانون الثاني/ يناير 2017، توقعتُ فيها ترتيبا ما لشيء من هذا القبيل.
كان يمكن ملاحظة تحوّلات عميقة وصادمة في السياسات العربية تجاه “إسرائيل”، وكيفيات إدارة الموقف تجاه الفلسطينيين، منذ النصف الثاني لعقد الألفية الأوّل، وتحديدا منذ أواخر انتفاضة الأقصى، وفوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية في العام 2006. صعدت إلى السطح سياسات عربية واضحة، كانت تهدف إلى تحطيم صعود حماس، ومن المرجح أن هذه السياسات أخذت تتبلور أكثر، ولا سيما في منطقة الخليج، من بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، وانعكست في المبادرة العربية للسلام التي طرحت في القمة العربية في بيروت في 2002، والتخلّي عن ياسر عرفات المحاصر، وصولا إلى التطابق مع الدعاية الإسرائيلية في عدوانها على غزة في 2008-2009، أو غضّ النظر عن ذلك.
بالتأكيد لم تكن الولايات المتحدة بعيدة عن هذه الترتيبات العميقة التي أخذت تتشكل من بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، فهي التي كانت مخاطبة بالتقرب من “إسرائيل” وبتقديم المبادرة العربية، أكثر من “إسرائيل”، لكن الأخيرة أخذت تتعزّز أكثر في السياسات العربية، في حقبة أوباما التي انتهجت سياسة رأى فيها البعض محاباة أقلّ لليمينين الإسرائيلي والعربي، بالرغم من احتفاظها بـ”إسرائيل” ثابتا كما احتفاظها ببقية مصالحها في المنطقة. إلا أنّ زلزال الثورات العربية والاتفاق النووي مع إيران، دفع تلك الدول العربية أكثر تجاه “إسرائيل”، ليستثمر الطرفان الإسرائيلي/ العربي فرصة ترامب نحو صياغة تصوّر لإعادة ترتيب المنطقة، يستند إلى تحالف إسرائيلي/ عربي. ومن ثمّ لم يكن غريبا ما قيل في حينه عن كون دول عربية هي التي اقترحت في الأساس مشروع خطة ترامب للقضية الفلسطينية، بالإضافة لإدارتها علاقات التطبيع بأسلوب الصدمة الكاسرة لكل الحواجز، وتنظيمها حملات إعلامية مثابرة لتشويه الفلسطينيين وتحطيم مرتكزات قضيتهم وتزيين التحالف مع “إسرائيل”.
هذا المسار في وضع ناجز إلى حدّ ما، فمن جهة يجري الإعلان عنه من أعلى الهرم القيادي في بلاد عربية، ومن جهة أخرى ينكشف في خطوات عسكرية عملية كما في نصب الرادارات الإسرائيلية في الخليج، ومن جهة ثالثة باتت خطته معلنة في تسريبات رسمية وإعلامية، ودوله المقترحة معروفة، وذلك بانتظار زيارة الرئيس الأمريكي بايدن لفلسطين المحتلة والسعودية في منتصف تموز/ يوليو القادم.
تحمل زيارة بايدن مؤشرات رسمية، حول تعلّق هذه الزيارة بتعزيز التطبيع العربي الإسرائيلي، والسعي للإعلان عن علاقات لدول عربية كبيرة مع “إسرائيل”، وهي زيارة تالية لسلسلة خطوات تمهيدية، واضحة، أهمها قمة شرم الشيخ في مصر في آذار/ مارس 2022، بين رئيس حكومة الاحتلال نفتالي بينيت والرئيس المصري السيسي وولي عهد أبو ظبي في حينه محمد بن زياد. وقد تلت هذه القمة قمة النقب في الشهر نفسه، وجمعت وزراء خارجية “إسرائيل” والإمارات ومصر والمغرب والبحرين والولايات المتحدة، ونجم عنها منتدى النقب، الذي اجتمعت لجنته التنسيقية أخيرا في المنامة في البحرين في 27 حزيران/ يونيو.
هذا الزمن الطويل للمسار، بما لا يقل عن 20 سنة، وما تضمنه من خطوات تتسم بالتسارع والإصرار منذ العام 2017، لم يكن الرجوع عنه في وارد أصحابه، والعامل الذاتي فيه، إسرائيليّا وعربيّا، مركزيّ، بإحلال “إسرائيل” نسبيّا مكان الولايات المتحدة، مع بقاء الأخيرة مظلّة فوق الجميع، وحاضرة في ترتيبات التحالف كلّها كما هو واضح حتّى الآن.
يكشف التحالف عن اهتراء عربيّ غير مسبوق، لا من حيث التخلي عن القضية الفلسطينية، بل من حيث التذيّل لـ”إسرائيل” من بعد التذيّل التاريخي للولايات المتحدة. لكن من الوارد أنّ الأمر ليس مغامرة بقدر ما هو مستند إلى ضمانات أمريكية، فالاصطفاف الكامل في الخندق الإسرائيلي يضع هذه الدول في صدارة المتصدين لأي صراع إسرائيلي في المنطقة، وفي مواجهة التاريخ، على عكس ما تظنه قيادات هذه الدول، أنّ “إسرائيل” ثابت تاريخي. وعلى أية حال، فإنّ الاصطفاف في الخندق الإسرائيلي، لا يخلو من مخاوف، تدفع المصطفين لاستمداد المزيد من الضمانات الأمريكية، حتى لو بدا أن الخندق الإسرائيلي سابق للاستعداد الإيراني.
ما ينبغي قوله، بعد ذلك كله، أنه لا يمكن التعويل على إمكانية صحوة عربية، تنصرف بتلك الدول العربية بعيدا عن “إسرائيل”، ولا جدوى من المواقف النصائحية التي قد يبديها كتاب تجاه تلك الدول، ففضلا عن قاعدة علاقات وتعاون عميقة عمرها على الأقل عشرون سنة، وعن رؤية تاريخية قاصرة لموقع “إسرائيل” ومكانتها في المنطقة، فإنّ بنية تلك الدول لم تكن لتفضي إلى إرادة للاستقلال الحقيقي وتعزيز القوى الذاتية، ولا إلى رؤية لقراءة أكثر صوابية للمنطقة والعالم.