كم يبدو مثيراً للاستغراب إصرار قيادة منظمة التحرير وقيادة السلطة (قيادة فتح) على اشتراط الالتزام بـ”الشرعية الدولية” على الفصائل الفلسطينية للاستئناف الفعلي للمصالحة الفلسطينية، وتشكيل حكومة وطنية، ودخول منظمة التحرير وإعادة بنائها.
والغريب هنا أن هذه القيادة تصرّ على من ينضم للمنظمة أن يُخالف ميثاقها الأساسي (الميثاق الوطني) والثوابت الفلسطينية، بدلاً من القيام بحماية الثوابت ورعاية المصالح العليا للشعب الفلسطيني؛ فلا ينضم إلى المؤسسة الرسمية التي تقودها إلا من يعترف بالكيان الصهيوني ويتنازل عن معظم فلسطين، وينبذ المقاومة المسلحة
ولأن قيادة المنظمة والسلطة وجدت في “الشرعية الدولية” مصطلحاً مقبولاً عربياً ودولياً، كما أنه مصطلح “حمَّال أوجه”، فقد سعت لاستخدامه في محاولة محاصرة وإحراج قوى المقاومة الفلسطينية الرافضة لمسار التسوية والتنازلات؛ وبالتالي استخدامه حجةً في التهرب من التزاماتها وواجباتها الوطنية.
ابتداء، فإن مصطلح “الشرعية الدولية” يعني مجموعة المبادئ والقوانين التي تحكم العلاقات الدولية وتوجِّهها من خلال منظمة الأمم المتحدة، وأجهزتها الرئيسية؛ ويشمل ذلك أيضاً الاتفاقيات التي رعتها، وقراراتها الصادرة عن أجهزتها الرئيسية، وهو مصطلح سياسي بالأساس. وعندما يتعلق الأمر بقضية فلسطين، فلعلنا نضع خمس نقاط أساسية تجعل من الضروري التّنبه والحذر عند التعامل مع هكذا مصطلح:
النقطة الأولى أن موازين القوى تلعب دوراً جوهريا في إثبات أو نفي أو تغيير الشرعية الدولية. ولا يتردد فقهاء القانون والعلوم السياسية في التساؤل عن أصل الشرعية بما في ذلك الشرعية الدولية، في ضوء تلازم القوة بالشرعية، إذ إنّ الشرعية غالباً ما تكون مسعى من الأقوى لإكساب قوته صبغة قانونية وأخلاقية. فمثلاً الشرعية الدولية المنبثقة عن الحرب العالمية الثانية أوجدها انتصار تلك القوى وهيمنتها على المشهد الدولي. وكذلك القرارت الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة هي مجرد توصيات في العموم لا تنفذ إلا بعد اعتمادها من مجلس الأمن، كما أن الدول متساوية الحقوق والواجبات في الجمعية، ولكن قرارات مجلس الأمن ملزمة والدول غير متساوية الحقوق والواجبات.
ويعكس النظام الدولي موازين القوى ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أعطى خمس دول بعينها حقّ النقض “الفيتو” وتعطيل الشرعية الدولية، حتى لو كانت تخالف الإجماع الدولي أو حتى قوانين وأنظمة وقرارات الأمم المتحدة نفسها، كما هو حاصل في الحالة الفلسطينية والموقف الأمريكي.
وبالتالي فثمة خطورة كبيرة في الاتكاء على “شرعية دولية” تقودها قوى دولية منحازة أساساً للعدو، بل هي سبب رئيس في إنشائه واستمراره.
النقطة الثانية هي التنفيذ الانتقائي للشرعية الدولية، بحسب ما يحلو للقوى المهيمنة ويخدم مصالحها. فوفق الشرعية الدولية، عندما وُضعت فلسطين سنة 1922 تحت نظام “الانتداب”، كان مطلوباً من الاحتلال البريطاني تهيئة سكانها للاستقلال. وقد تخلت بريطانيا عن وعد بلفور في الكتاب الأبيض الصادر عنها في أيار/ مايو 1939، ووافقت على إنشاء دولة فلسطينية كاملة السيادة على كل فلسطين خلال عشر سنوات.. ولكن هذا لم يحدث.
ووفق ميثاق الأمم المتحدة كانت الإجراءات المعتادة لإنهاء الانتداب، تقتضي إعطاء حقّ تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وكان انسحاب الانتداب يعني استقلال فلسطين، كما حدث مع جميع الدول الواقعة تحت الانتداب. غير أن قرار تقسيم فلسطين جاء مخالفاً لهذه الشرعية الدولية، ومتناقضاً بشكل جوهري مع الأسس والمبادئ التي قامت عليها الأمم المتحدة، حيث جاء من جهة لا تملك الصلاحية (الجمعية العامة للأمم المتحدة). ثم إن الشعب الفلسطيني (المعني بالقرار) لم تتم استشارته أو استفتاؤه في مستقبل بلده، ولا في التنازل عن أجزاء منها، ولم يوافق أبداً على نقل السيادة على أجزاء من أرضه.
وهكذا نشأت “شرعية دولية” جديدة تعترف بالكيان الصهيوني، بالرغم من أن القانون الدولي يرفض احتلال الأراضي بالقوة المسلحة والمجازر والتطهير العرقي، وهو الذي نشأت على أساسه “إسرائيل”، على نحو 77 في المئة من أرض فلسطين، بينما كان الفلسطينيون يملكون في ذلك الوقت أكثر من 94 في المئة من أرضهم.
من جهة أخرى، فإن اعتراف الجمعية العامة للأمم المتحدة بـ”إسرائيل” كان مشروطاً بقيام دولة فلسطينية وبحق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، وهو ما لم ينفذه الكيان إطلاقاً، ومع ذلك تمّ الإبقاء على عضويته في الأمم المتحدة.
إنه لا يمكن التحدث بشكل جاد عن الالتزام بالشرعية الدولية، ما دامت هذه الشرعية ومنظومتها الدولية وقواها الكبرى قد فشلت في إلزام الكيان الإسرائيلي بالقرارات الدولية الأساسية ذات الصلة، بل قامت بتوفير الغطاء للكيان لخرق هذه الشرعية.
النقطة الثالثة مرتبطة بالتجربة التاريخية؛ إذ صدر عن “الشرعية الدولية” بخصوص القضية الفلسطينية حتى هذه السنة (2023) نحو 850 قراراً من الأمم المتحدة (الجمعية العامة وغيرها من المؤسسات التابعة لها) ونحو 130 قراراً من مجلس الأمن، مع تأكيد ضمان التزام كل القرارات بالمبادئ المؤسسة للأمم المتحدة، مثل حق تقرير المصير وحق المقاومة؛ وهو ما لم يتم احترامه وتنفيذه. ولم يتم إلزام الكيان الصهيوني بتطبيق قرارات الجمعية أو مجلس الأمن بخصوص فلسطين، ولا استعمال الفصل السابع إذا لزم الأمر لإجباره على الانصياع للشرعية الدولية. والاحتلال لم يعلن يوماً التزامه الكامل بالشرعية الدولية، بل أعلن التزاماً انتقائياً، بما يخدم مشروعه الاستيطاني الإحلالي، وضرب عرض الحائط بكل القرارات الدولية التي تطالبه بالالتزام بحقوق الشعب الفلسطيني.
وهذا يؤكد عدم جدوى الإقرار بالشرعية الدولية كمدخل لإنجاز أي من الحقوق الوطنية الفلسطينية، نظراً للاختلال الكبير في موازين القوى، والانحياز الكبير للكيان الصهيوني من قبل القوى الكبرى في النظام الدولي وبالذات الدول الغربية. ولم تعرف حالة تحرر وطني تمت من خلال “الشرعية الدولية” فقط.. وإن كانت استخدمتها في المراحل النهائية لقطف الثمار، بعد تحقيق إرادتها على الأرض، لأن عملية التحرر تعكس في الحقيقة موازين القوى وليس قواعد الحق والعدل.
النقطة الرابعة أن الإقرار بالشرعية الدولية يتضمن الموافقة على قرارات 181، 242، 338، 194 وغيرها من القرارات المتعقلة بالقضية الفلسطينية، والتي تشرعن وجود الكيان الصهيوني على جزء من أرض فلسطين. ولذلك، فالموافقة المفتوحة على الشرعية الدولية سيتم استخدامها من القوى المهيمنة في فرض التنازلات على الشعب الفلسطيني.
النقطة الخامسة أن الإقرار بالشرعية الدولية متعلق بالدول، وليس مطلوباً، ولم يطلب تاريخياً من الأحزاب وحركات التحرر أن تلتزم بالاتفاقيات الدولية، قبل أن تصبح دولة أو ممثلاً رسمياً لدولة. وحركات المقاومة ليست طرفاً أصيلاً في أي اتفاقيات دولية حتى تعبر عن موقفها بالقبول أو الرفض. ولذلك، فمطالبة محمود عباس وقيادة السلطة والمنظمة من حماس والجهاد الإسلامي وقوى المقاومة الاعتراف بالشرعية الدولية أو التعامل على أساسها هو في غير مكانه، وغير ذي معنى.
ومن ناحية أخرى، لم يطلب أحد من الأحزاب الصهيونية الإعلان مسبقاً عن التزامها بالشرعية الدولية وقراراتها، سواء قبل الانتخابات أم بعدها، أم عند تشكيل أي حكومة، بل إن كل الأحزاب الصهيونية في مواثيقها لا تعبر عن أي التزام بالشرعية الدولية أو بالحل المقبول دولياً (حلّ الدولتين).
وأخيراً، فإذا كان ثمة عناصر إيجابية في الشرعية الدولية، فإنه لا يمكن الحديث بجدية عنها دون اتخاذ كافة الاحتياطات لعدم الوقوع في “الأفخاخ” المنصوبة. فثمة فرق كبير بين الجانب النظري المتعلق بالقواعد المؤسِّسة للأمم المتحدة، وفي مقدمتها العدل والمساواة وحق تقرير المصير، وبين الممارسات العملية التي دفعنا أثمانها غالياً طوال الأعوام المائة الماضية. ولذلك، فإن التعامل الإيجابي مع القواعد الناظمة لعمل المؤسسات الدولية، يجب ألّا ينتقص أيّاً من الحقوق الأصيلة والطبيعية للشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها حقه في العودة وتقرير المصير، ومقاومة الاحتلال، والتحرير الكامل لأرضه ومقدساته؛ وبناء على الالتزام الفعلي الكامل من القوى الدولية بهذه الحقوق.