فشلت السلطة على ما يبدو في ضمان محاكمة عادلة وسريعة في قضية مقتل المعارض السياسي البارز نزار بنات على أيدي قوات الأمن الفلسطيني قبل نحو عام. فكان معقولاً إخلاء سبيل المتهمين في قتله بعد أن أمضوا كل هذه المدة في الحبس الاحتياطي دون إصدار حكم نهائي بحقهم. فالأصل محاكمة الإنسان وهو حر طليق، هذه هي القاعدة العامة في الدستور والقانون، هذه هي حقوق المتهم -المتهم بريء حتى تثبت إدانته، القاعدة التي نطالب باحترامها كل يوم.
لن أناقش هنا مدى احترام السلطة لهذه القاعدة العامة في مواجهة الآخرين، فالنتيجة معروفة ومعكوسة تماماً. يكفي أن تعلم بأن المواطن عمَّار بنات -ابن عم نزار، ما زال محتجزاً احتياطياً بسبب اتهامه في جنحة بسيطة منذ أكثر من شهر، وغيره كثير ممن احتجزوا احتياطياً لأسابيع وشهور بسبب اتهامات وجهت إليهم بإثارة النعرات وإطالة اللسان وذم السلطة العامة، وهي جنح بسيطة وتعسفية.
على أي حال، الانتقادات لا يجب أن توجه إلى إخلاء سبيل المتهمين، لأنه ببساطة تطبيق للأصل العام في القانون، فهذه حقوق للمتهم كما ذكرت، ومعارضتها دون توضيح السياق، يوقعك بفخ السلطة لأنك ستظهر عندئذٍ متناقض وغير متسق في مواقفك. إنما يجب أن توجه الانتقادات إلى التلكؤ غير المبرر في المحاكمة، إلى عدم الجدية فيها،… فهذا كله أدى بالنتيجة لجعل إخلاء سبيل المتهمين يبدو معقولاً من ناحية نظرية على الأقل وبعيداً عن المخالفات الإجرائية التي قد تكون شابت عملية الإفراج، فالقرار اتخذ من جهة غير مختصة (النائب العام العسكري) ودون أساس قانوني (فالإجازة من التوقيف لا تمنح وفقاً لقانون الإصلاح والتأهيل لغير المحكومين -الموقوف ليس له إجازة من التوقيف، بل له إخلاء سبيل فقط).
منذ البداية، لم تكن المحاكم العسكرية مكاناً مناسباً ولا حتى متوقعاً منه أن يحقق العدالة لنزار بنات وعائلته. لقد كان ذلك محل انتقاد الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان ومؤسسة الحق في تقرير تقصي الحقائق الذي أصدروه بشأن مقتل نزار، قالوا آنذاك بما معناه، وتحت بند إقامة العدل عن طريق المحاكم العسكرية أنه: ليس ثمة اختصاص للمحاكم العسكرية في محاكمة الضباط المتورطين في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، مثل الإعدام خارج نطاق القضاء، والاختفاء القسري، والتعذيب. يستند هذا الموقف إلى المعايير الدولية التي تثير مخاوف وشكوك كبيرة بشأن تولي المحاكم العسكرية محاكمة العسكريين المتورطين في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، إذ تخشى أن تسهم تلك المحاكم في حالة الإفلات من العقاب.
هذا لا يعني بأن العدالة كانت ستتحقق على يد القضاء النظامي لا سمح الله. بحسب معرفتي بالسلطة الفلسطينية كنظام سياسي استبدادي، فإنه لا يتوقع منه أكثر مما قدم في هذه القضية، لم يكن متوقعاً منذ البداية أن تذهب الأمور بعيداً ومن اعتقد خلاف ذلك فهو واهم… واهم. لم ولن تذهب السلطة إلى تحقيق شفاف ومهني ومحايد ومستقل في مقتل نزار، وهذا ظهر جلياً في تقرير لجنة تقصي الحقائق الرسمية والذي لم يفضي إلى شيء، وفي لائحة الاتهام التي في اعتقادي حجبت حقائق واتهامات أكثر مما أعلنت عنه، وفي المحاكمة التي لم تكن سريعة بما فيه الكفاية ولا حاسمة.
السلطة لا تساءل موظفيها عندما يخالفون القانون أثناء أداء وظيفتهم أو بسببها، وهي كنظام لا يتحمل المسؤولية. سنوياً، مئات حالات التعذيب وسوء المعاملة ولا أحد يعرف المتورطين إن كانوا ما يزالون على رأس عملهم أم لا، ضرب المتظاهرين ولا أحد يسأل، سرقة هواتف المتظاهرات وما يزال النشًّالون والمبتزون طلقاء، الفساد في الوظائف الرفيعة المستوى، إساءة استعمال السلطة من ذوي النفوذ، الإخلال بالواجبات الوظيفية، فهل سُئِلت سمكة كبيرة يوماً ما؟ لا، لم يسأل أحد سوى الأسماك الصغيرة المغضوب عليها.
نعم، خضعت السلطة أخيراً لضغط أوروبا وأمريكا في إجراء محاكمة الأسماك الصغيرة المتورطة في قتل نزار وذلك على عكس العادة، التي يفلت فيها الكبار والصغار من المحاكمات الواجبة قانوناً عما اقترفوه من جرائم وعما يأمرون به. إلا أنه عندما عادت حليمة لعادتها القديمة وأفرجت أوروبا وأمريكا عن الأموال المحتجزة، أفرجت السلطة عن الأسماك الصغيرة أيضاً، فالمحاسبة ليست في قاموسها.
مرة أخرى، أنا لا أجادل مطلقاً في عدم معقولية الإجراء الذي تم، فهذا هو القانون باختصار شديد (أن يحاكم الإنسان حراً طليقاً)، ولكني أقول بأن السلطة لم يعرف عنها الالتزام بالقانون، والدليل أن المحكمة العسكرية لا تعرف شيء عن إخلاء السبيل، والدليل ضرب المتظاهرين، والدليل إحالة القضية منذ البداية إلى المحكمة العسكرية لا النظامية، والدليل القرارات بقانون، والدليل إلغاء الانتخابات العامة، والدليل توقيف عمَّار بنات حتى الآن، وإدانة الفنان عبد الرحمن ظاهر سابقاً، وسرقة هواتف المتظاهرات بعدها، إلى غير ذلك من الشواهد والأدلة التي تثبت أن السلطة الفلسطينية تنكر مبادئ سيادة القانون والمساواة والحكم الرشيد.
أنا الذي أجادل به هنا أن السلطة كنظام سياسي لم ترغب منذ البداية وغير قادرة أصلاً على تحقيق العدالة لنزار بنات وعائلته، ولا تستطيع في المقابل أن تضمن محاكمة عادلة للمتهمين، لأن المحاكم ببساطة غير مستقلة، لأن الأجهزة الأمنية لا تطبق القانون على الجميع، ولأنها تمتنع عن تنفيذ أحكام المحاكم عندما لا تروق لها، ولأن القائد الأعلى للقوات الفلسطينية الرئيس أبو مازن، يستطيع بموجب القانون وفي أي وقت أن ينقض حكم المحكمة العسكرية ويغيره، لا سيما أنه الآن غير مسؤول أمام أحد، لا أمام الناس، ولا البرلمان، ولا الله، ولا أمام أحد آخر، وأنتم تعرفون البئر وغطاه.
ماذا يعني ذلك؟ يعني أن هذا الملف (ملف نزار بنات)، بوصفه انتهاك جسيم لحقوق الإنسان، سيرحب به كثيراً على طاولة المحاكم الدولية إن بقي الحال على ما هو عليه كجريمة ضد الإنسانية، كما يمكن أن يكون محل ترحيب من قاضٍ في لندن، أو قاضية في بروكسل، أو في برلين أو مدريد. وفي جميع الأحوال، أعتقد أنه سيفتح الملف من جديد ومن الألف إلى الياء عندما تكون الظروف مناسبة، وأقصد بالظروف المناسبة، أجواء العدالة الانتقالية في فلسطين، التي تعقب نهاية النظام المتهم في قتل نزار بنات وتسبق تشكيل نظام سياسي ديموقراطي، في تلك الأجواء ستظهر جميع الحقائق، وستتم محاكمة الأسماك الكبيرة بوشاية من سمكة صغيرة أبرمت معها صفقة بوعدها تخفيف عقوبتها إلى النصف إن هي قصت القصة كاملة وذكرت الأسماء كافةً.
حتى ذلك الوقت، وإن كنا نرغب في تجنب المحاكم الدولية، وإن كنا نرغب في تحقيق العدالة، وفي إعطاء كل ذي حق حقه، وإن كنا نرغب في مرور أجواء العدالة الانتقالية التي ستأتي أخيراً بهدوء، على السلطة الفلسطينية وعلى لسان رئيسها محمود عباس “أبو مازن” أن تعلن تحملها المسؤولية الكاملة عن جريمة مقتل نزار بنات مع ما يترتب على ذلك من آثار، وتقديم اعتذار علني لعائلته وأصدقائه وللشعب الفلسطيني، وتعويض عائلته، واعتباره شهيد، وتشييد نصب تذكاري له، وإحياء ذكراه السنوية، مع تعهد بعدم التكرار، وإجراء تحقيق شفاف ومهني ومحايد ومستقل في مقتله واطلاق النار على بيته، ونشر الحقائق كافة للناس، ومحاكمة جميع المتورطين في قتله وإطلاق النار على بيته.
غير ذلك، يبقى الشك كبير بأن قتله كان عن سبق إصرار وترصد، وبقرار من فوق. وأننا سوف نبقى ننتظر إلى أن تأتي الحقائق كاملة غير منقوصة ذات يوم.