يدفع العالم حتى اللحظة أثمان الاستعمار القديم، لا من حيث مآلاته الماثلة تخلّفاً من أنماط مختلفة للمستعمرات القديمة أو التابعيات غير القليلة للمركز الغربي، فحسب، ولا فقط من حيث وراثة الولايات المتحدة لذلك الاستعمار، ولكن أيضاً بتجلياته المباشرة حتى اللحظة، حتى يمكن القول إنه لولا أفريقيا لما كانت فرنسا عضواً في نادي الكبار، ولا واحدة من أصحاب الاقتصاديات الأهمّ في العالم، وهو ما يستفيد منه وراء ذلك، الاتحاد الأوروبي، وذلك بتثبيت سعر صرف الفرنك الأفريقي بالنسبة لليورو، إذ تشتري الدول الأوروبية من أفريقيا باليورو بقيمة نقدية ثابتة لتضمن كسباً دائماً، في حين أن الدول الأفريقية لو اشترت بالقيمة النقدية ذاتها بالدولار، فإنّها ستخسر 20 في المئة من قيمة مواردها، فكيف إذا أضيف إلى ذلك احتفاظ فرنسا بـ50 في المئة من الاحتياطات النقدية لـ14 دولة أفريقية، وطباعتها العملات الورقية والمعدنية لتلك الدول. وغير بعيد عن ذلك، جملة سياسات أخرى متعلقة بالنفط، والقواعد العسكرية، واستخراج المواد الخام، لتكون أفريقيا المنهكة، والفقيرة، الداعم الأهم للاقتصاد الفرنسي، وللاقتصاديات الأوروبية عموماً، على حساب سكانها!
المريع بعد ذلك، أن يتقبّل أحد الدعاية الغربية حول حقوق الإنسان، وما يزال الإنسان الغربي، لا بفضل الاستعمار القديم الذي قطع به التجارب الحضارية لغيره وبنى حضارته عليه، بل وبعد ذلك باستمرار الاستعمار بأقنعته الجديدة، يرفل في خيراته الجارية.
يمكن للإنسان الغربي أن يعطيك الدروس، ثمّ أن يفعل معك العكس تماماً، وذلك لأنّه مؤمن بتفوّقه الأخلاقي، ليس لأنّ الأخلاق بالنسبة له نسبية في ذاتها، بقدر ما هي نسبية لأنّها صادرة عنه، فبحسب اختلاف مصالحه وأوضاعه، يعيد صياغة الأخلاق، ثم يعيد توظيفها في سياسات تثبيت هيمنته وتبعية العالم له.
وبالرغم من أنّ هذه حقيقة أشدّ وضوحاً من أن يجري التأكيد الدائم عليها، إلا أنّها تغيب، بقدر ما، في التصوّرات المعاصرة، المعادية سياسيّاً للعالم الغربي، ثمّ الساعية للتكيّف مع ثقافته الغالبة، وإعادة صياغة الثقافات الخاصّة، بل وأحياناً القيم الدينية، لإثبات مواءمتها للثقافة المعاصرة، التي هي نتاج تلك الأحوال الغربية فلسفة وتاريخاً واجتماعاً وسياسة!
تمثّل “إسرائيل” استمراراً للاستعمار القديم، من حيثيات عديدة، بعضها كونها تولّدت أصلاً في قلب الاستعمار القديم، داخل الانتداب البريطاني على فلسطين، وبالتسوية المشهورة بين الاستعمارين البريطاني والفرنسي، وهي قد كانت كذلك بالفعل، بوصفها طليعة استعمارية غربية، ثُبّتت في هذه المنطقة لجملة أهداف، ليس أقلّها تثبيت الهيمنة الغربية على هذه المنطقة، والتجسيد الثابت لروح الحملات الصليبية في التاريخ. مهما قيل في شأن فاعلية “المسألة اليهودية” في أوروبا، في خلق الكيان الإسرائيلي، إلا أن النتائج السياسية القاطعة على هذه المنطقة تلمّس خياراتها بنفسها والضامنة لتبعيّتها، إمّا بتمركز الدول العازلة حول وظيفتها، غير قادرة على الانفكاك منها، أو تولّد التبعيات باستمرار (للمفارقة من التبعية لبريطانيا ثم للولايات المتحدة، وأخيراً البحث عن التبعية لـ”إسرائيل”!)، غاية في الوضوح، ولا يمكن عزل العامل الإسرائيلي عنها!
لم يكن ثمّة حاجة للتصريح الشهير للرئيس الأمريكي، بايدن، الذي يقول فيه: “لو لم تكن إسرائيل موجودة لكان علينا اختراعها”، وتصريحه الآخر: “لا يلزم أن تكون إسرائيليّاً لتكون صهيونيّاً”، إلا أنّه صياغة مباشرة من أصحاب الأمر لتلك الحقيقة، أكثر مما هو مجاملة للإسرائيليين، وهو ما يدركه الإسرائيلي جيداً، كما عبّر عنه بدقة بنيامين نتنياهو، في أيار/ مايو من العام 2021، أثناء عدوان دولته على غزّة، في جمع من الصحفيين الغربيين، لما قال: “إذا اعتقدت حماس أنها تنتصر فهذه هزيمة لنا كلنا وللغرب بأسره”. ولم يكن نتنياهو، يستدرّ عواطف الغربيين، بقدر ما كان يذكّرهم بأصل مشروعهم، الذي لولاهم ما قام، ولولاهم ما استمرّ، بل إنّ الذي ينظر في جملة التطويرات العسكرية والأمنية في البنية التحتية الاستعمارية الإسرائيلية، في الضفّة الغربية، وفي عتاد الجيش الإسرائيلي، لا يمكنه تخيّل إمكان ذلك، لولا الدعم الأمريكي فاحش السخاء لـ”إسرائيل”!
بيد أنّ نتنياهو، في ذلك المؤتمر الصحفي، كان يضمر عتباً، ويُظهر حيرة، إذ أخذ يتشكّل في ذلك العدوان، حيّز، ولو كان محدوداً ولكنه غير مسبوق في وسط الرأي العام الغربي، مديناً جرائم “إسرائيل” في عدوانها على غزّة. فـ”إسرائيل” بوصفها مشروعاً غربيّاً، وبوصفها بقعة “غربية متحضرة” في وسط “وحشية التخلف العربي”، أو بحسب إيهود باراك “فيلّا في غابة”، وبوصفها محاكية للاستعمار الغربي ووريثة له ولأدواته، لا ينبغي أن تُحاسب، تماماً كما أنّ ذلك الاستعمار لم يُحاسب، ولم يحاسبه أحد، وما يزال يغيّر أقنعته في الهيمنة على العالم، وفي اجتراح ضروب متجددة من أنماط الاستعمار، كما ضربنا لذلك مثلاً في مطلع هذه المقالة، من الهيمنة الفرنسية المثيرة للدهشة على أفريقيا وسكانها ومقدّراتها!
لماذا على “إسرائيل” أن تلتفت للاستعمار المقنع؟ فلتتحدث عن أكثر من 50 ألف غارة شنتها الولايات المتحدة طوال خمس سنوات، منذ العام 2014، على سوريا والعراق وأفغانستان، وأفضت إلى مقتل 1417 مدنيّاً بحسب اعترافات الجيش الأمريكي، التي تقلّ كثيراً عن تقديرات “نيويورك تايمز”، ويمكن لـ”إسرائيل” أن تُذكّر بسجن أبو غريب، وبغوانتنامو، وكيف أنّ الولايات المتحدة حولت بلاد العالم إلى وكلاء لأمنها، وسجون العالم إلى سجون لـ “C.I.A”، بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، وضباط مخابرات العالم إلى أجراء لدى وكالة المخابرات المركزية. الجميع يتذكر ما نشره الصحفي الأمريكي رون سوسكيند في كتابه “مبدأ الواحد في المائة” عن حوار بين رئيس عمليات “C.I.A” في مصر، ومدير المخابرات المصرية عمر سليمان، حينما طلبت “C.I.A” منه إرسال عينة من دم محمد الظواهري، الشقيق الأصغر لأيمن الظواهري، بماذا ردّ سليمان على الطلب؟ “ليس هناك مشكلة، سنقطع ذراعه ونرسلها إليكم”. ويمكن لـ”إسرائيل” أن تُذكّر بأن احتلال الولايات المتحدة للعراق كان “بلطجة” خالصة عَدِمت أيّ إطار قانوني، لكن عليها أن تتذكر هنا أن هذا الاحتلال كان لأجل عيونها، بوصفها مشروعاً استعماريّاً غربيّاً!
لكن يبقى السؤال.. من حاسب الولايات المتحدة؟ من يستطيع أن يحاسبها أصلاً؟!
ماذا يترتب على كون “إسرائيل” مشروعاً استعماريّاً غربيّاً، وأنها ترى نفسها فيلّا غربية في غابة عربية موحشة؟! ألا يحاسبها أحد، بل ألا يعاتبها أحد؟ ألا تطلب منها الولايات المتحدة تغيير قواعد الاشتباك بما يضمن تحييد الصحفيين والمدنيين؟ ستقول “إسرائيل” ضمناً” انظر من يتحدث عن تحييد المدنيين! نحن منكم وإليكم، لنا ما لكم، قواعد الاشتباك نحن نفرضها، وفق مصلحتنا التي تحدّد، والحالة هذه، القيم الأخلاقية. ستصير “إسرائيل” وفق هذا الفهم، المرجعية لتحديد الصواب والخطأ في كلّ ما يتصلّ بها!
“إسرائيل” استدعت القوانين الدولية بما يشرعن وجودها، أيّ أن “إسرائيل” في أصل نشأتها، كانت مرجعية قانونية، ومن ثمّ فُصّل قرار التقسيم (181) تبعاً لهذه الواقعة، بعد ذلك تبلور العقل الإسرائيلي على هذا النحو
لكن ثمّة ما هو أعمق من ذلك، وهو أن “إسرائيل” اكتشفت نفسها بالفعل كذلك، مرجعية القوانين والأعراف. ليس المقصود هنا التصوّر الذاتي عن الشعب المختار وعن الآخرين الأغيار، بل البنية الاستعمارية لـ”إسرائيل”، فالواقعة الاستعمارية المسماة “إسرائيل” استدعت القوانين الدولية بما يشرعن وجودها، أيّ أن “إسرائيل” في أصل نشأتها، كانت مرجعية قانونية، ومن ثمّ فُصّل قرار التقسيم (181) تبعاً لهذه الواقعة، بعد ذلك تبلور العقل الإسرائيلي على هذا النحو، وبالنظر إلى محاضر المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، يتضح أن “إسرائيل” بكل حكوماتها المتعاقبة، كانت دائماً تعدّ ما فرضته من وقائع استعمارية مرجعية المفاوضات، لا أيّ شيء آخر!
سوف تقتل، وتسجن، وتعزل الفلسطيني، دون أن ترى في ذلك أيّ مشكلة أخلاقيّة.. لأنّها ببساطة المحاكي الأكثر وضوحاً للاستعمار الغربي، ولأنها كذلك، فلا ينبغي أن يعاتبها أحد فضلاً عن أن يحاسبها أحد!