على ما يبدو، فإن المعطيات تشير إلى أن سنة 2023 ستشهد احتمالات تصعيد العدوان الإسرائيلي على الأرض والإنسان والمقدسات، وخصوصًا في القدس، وتصاعد العمل المقاوم في الضفة الغربية، وربما دخول قطاع غزة في مواجهات جديدة مع الاحتلال. ومع ذلك، فليس من المتوقع أن يشهد الوضع الداخلي الفلسطيني اختراقات حقيقية في ملف المصالحة وإعادة بناء البيت الفلسطيني.
وفيما يلي بعض التوقعات في الملف الداخلي، والقدس، والعمل المقاوم، والملف الإسرائيلي:
الملف الداخلي الفلسطيني:
بذلت الجزائر جهدًا كبيرًا مقدرًا على صعيد تفعيل ملف المصالحة الفلسطينية، نتج عنها اتفاق الجزائر في 13 تشرين الأول/ أكتوبر 2022 الذي التزم بإجراء انتخابات فلسطينية خلال عامٍ من تاريخه، والمضي قُدمًا في ترتيب البيت الفلسطيني برعاية جزائرية وعربية. غير أن عقلية القيادة التي تحكم منظمة التحرير والسلطة في رام الله، والخبرة التاريخية لأدائها على الأرض، بل وسلوكها الذي تلا هذا الاتفاق؛ لا يعطي مؤشرات جدية على إمكانية تنفيذ هذا الاتفاق.
إذ ستبقى قيادة المنظمة والسلطة (قيادة فتح) مسكونة باستمرار هيمنتها على المؤسسات الرسمية و”الشرعية” الفلسطينية؛ ولن توافق على إجراء انتخابات تكون نتيجتها خروجها من السلطة، أو فرض حماس وقوى المقاومة لأجندتها. وستقف إلى جانب قيادة السلطة الدولُ العربية الفاعلة في الملف الفلسطيني، وكذلك القوى الغربية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة. بالإضافة إلى أن الاحتلال الإسرائيلي نفسه، سيسعى لتعطيل أي انتخابات في مناطق احتلاله خصوصًا في الضفة الغربية بما فيها القدس، إذا ما وجد احتمالات لفوز خط المقاومة في الانتخابات. وقد صبَّ في تأكيد هذا المسار، استمرارُ السلطة في الملاحقات الأمنية لقوى المقاومة ومؤيديها، وتشكيل أبي مازن لمجلس القضاء الأعلى.
غير أن قيام الاحتلال الصهيوني، تحت إدارة الحكومة الأكثر تطرفًا في تاريخه، بإجراءات ميدانية عدوانية تؤدي إلى مزيد من تقزيم السلطة ومزيد من انكشاف دورها الوظيفي، قد يدفع قيادة السلطة للتلويح بإنفاذ التوافقات الفلسطينية أو بحلّ السلطة، كأداة ضغط تكتيكية، كما فعلت سابقًا في مواجهة خطة ترامب (صفقة القرن). وربما تسعى قوى المقاومة لتوفير مخرج معقول أو مقبول لفتح، من خلال التوافق على فترة مرحلية تتشارك فيها القوى الفلسطينية في المجلس الوطني الفلسطيني والهيئات القيادية لمنظمة التحرير والسلطة ومؤسساتها التشريعية بنسبٍ توافقية. وهو أمر يبقى إنفاذه محطّ شكّ كبير على الأقل خلال سنة 2023.
القدس: سيكون ملف القدس ملفًا ساخنًا سنة 2023، في ضوء تولّي قوى الصهيونية الدينية الملفات الأكثر حساسية بهذا الشأن. وسيكون على رأس الأجندة الصهيونية تسريع إجراءات تهويد المسجد الأقصى، وإنهاء حالة الوضع الراهن (Status Quo) التي كانت هي القاعدة التي استندت إليها إدارة الأوضاع بشكل عام منذ سنة 1967، وتجاوز “الوصاية الهاشمية”. وسيكون هذا التهويد ملفًا مركزيًا لدى حكومة الاحتلال، الذي سيوفر الغطاء البشري والمادي للتدرج نحو فرض “الحقائق” على الأرض، واستكشاف إمكانية تحويلها إلى حالة “رسمية” يمكن شرعنتها إسرائيليًا. وهذا ينطبق على تعزيز الطقوس الدينية في المسجد الأقصى، كالسجود الملحمي والقرابين والشمعدان، والتقسيم الزماني والمكاني للأقصى.
وستتسارع ملفات التهويد في القدس كما في مصادرة الأراضي، والاستيطان، وهدم منازل الفلسطينيين، وبناء المعالم اليهودية، ونشر القبور الوهمية وغيرها.
وهذا يعني أن عناصر التفجير ستظل قائمة ومتصاعدة في القدس، وأن الاحتلال “يلعب بالنار” التي ستحرق يديه. كما يستدعي ذلك مزيدًا من التعبئة والاستعداد لدى الشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية في مواجهة العدوان.
المقاومة الفلسطينية: تصاعَدَت العمليات كثيرًا خصوصًا في الضفة الغربية، وفي الأشهر العشرة الأولى من سنة 2022 بلغت العمليات نحو عشرة آلاف عملية، بينها 639 عملية إطلاق نار، و33 عملية طعن أو محاولة طعن، و13 عملية دهس أو محاولة دهس. وأدى ذلك إلى مقتل 25 مستوطنًا وجنديًا إسرائيليًا وجرح نحو 420 آخرين؛ وهي أعلى حصيلة منذ سنة 2015. وبرز تأثير العمليات الفردية، كما برزت بؤر للمقاومة في جنين ونابلس.
والمقاومة الفلسطينية مرشحة للتصاعد خلال سنة 2023، خصوصًا في ضوء تشكيل حكومة الاحتلال الأكثر تطرفًا دينيًا وعنصريًا، والتي تتبنى برنامجًا قمعيًا عدوانيًا ضدّ الشعب الفلسطيني، وضدّ أرضه ومقدساته؛ مما يعزز خيارات التوجه نحو المقاومة في الوسط الفلسطيني، وبما يُفقد السلطة في رام الله مبررات وجودها من وجهة النظر الفلسطينية.
كما أن تصاعد إجراءات التهويد والقمع الصهيوني، خصوصًا في القدس والمسجد الأقصى، قد تدفع المقاومة في غزة في نهاية المطاف لخوض معركة “سيف قدس” جديدة، في بيئة فلسطينية وعربية وإسلامية داعمة لهذا التوجّه، مصحوبة بتعاطف شعبي عالمي.
ولذلك، تأتي سنة 2023 محملة بعناصر التفجير، وتعزيز العمل المقاوم. غير أن الولايات المتحدة وقوى التطبيع في المنطقة ستسعى لتجنب هكذا مسار، بما في ذلك تخفيف حدة اندفاع التطرف لدى الجانب الإسرائيلي، ومحاولة تحسين الظروف المعيشية للفلسطينيين ولو جزئيًا.
الكيان الصهيوني: مع تشكيل نتنياهو لحكومة هي الأكثر تطرفًا في تاريخ الكيان الصهيوني، ومع تصاعد نفوذ الصهيونية الدينية والجماعات الاستيطانية وجماعات “المعبد” في نظام الحكم ومؤسساته، فإن الطبيعة الدينية اليهودية للكيان ستكون أكثر وضوحًا. وهو ما ينعكس على طبيعة فهم الكيان للصراع وتطبيقاته على الأرض، وعلى البيئة الإسرائيلية الداخلية، وطريقة التعامل مع البيئات الإقليمية والدولية، وما قد يفاقم كذلك من المشاكل الداخلية الإسرائيلية، والصراع بين التيارات العلمانية والدينية، وعلاقة الدين بالدولة، ومحاولات فرض التعاليم التوراتية على الحياة العامة.
ومن الناحية الداخلية قد تتمتع الحكومة بنوع من الاستقرار لوجود أغلبية من 64 مقعدًا في الكنيست؛ غير أن الأداء “المتطرف” للحكومة قد يكون محلّ قلق الأمريكان والبيئة العربية المُطبِّعة، خشية “إفساد” ما بقي من أوهام لمسار التسوية، وخشية انفجار الأوضاع. ولذلك سيسعى نتنياهو إلى الإمساك بملفات العلاقات الخارجية، ومحاولة الدفع باتجاه مسارات التطبيع، وإشغال القوى المختلفة بالملف الإيراني.
ومع إدارة الصهيونية الدينية وحلفائها للأمن الداخلي وإشرافها على الشرطة، وعلى ما تسمى “الإدارة المدنية” في الضفة، وتحقيق نفوذ وازن على الجيش؛ فمن المتوقع تنفيذ “شرعنة” عاجلة لـ65 بؤرة استيطانية، كدفعة أولى باتجاه مزيد من شرعنة الاستيطان وتوسيعه.
وسيتم التعامل مع الشعب الفلسطيني واحتجاجاته بقسوة بالغة، مع التساهل في إطلاق النار باتجاه الفلسطينيين والقتل العمد، وستكون هناك محاولة لممارسة “قبضة حديدية” في إدارة الضفة وقمع أعمال المقاومة وبؤرها في نابلس وجنين وغيرها، اقتداء بسلوك شارون في انتفاضة الأقصى وربما أشد. وسيتم دفع السلطة في رام الله دفعًا للقيام بدورها الوظيفي في خدمة أجندة الاحتلال؛ مع تنفيذ إجراءات عقابية مثل عدم تسليم أموال المقاصة، وتشديد الحصار على قطاع غزة، ومنع العمال من التنقل للعمل في فلسطين المحتلة 1948؛ كما سيشهد فلسطينيو 1948 المزيد من المعاناة والصعوبات والضغوط. هذا، بالإضافة إلى تنفيذ الأجندة التي أشرنا إليها فيما يتعلق بالأقصى والقدس.
ولعل ما سبق يمثل الوصفة اللازمة لتفجير الوضع في فلسطين المحتلة، واتجاه الجماهير نحو انتفاضة جديدة. وفي الوقت نفسه، فإن التجربة التاريخية تشير إلى أن متطرفي الكيان عندما يتولون مناصب رسمية، يصبحون أكثر حذرًا وبراجماتية في تنفيذ أجنداتهم. وأنهم سيقومون بالتصعيد وفق حسابات يرون أنها ستحقق لهم الحد الأعلى من المكاسب، مع محاولة تجنّب دفع أثمان كبيرة ليسوا جاهزين لها حاليًا كانهيار السلطة، أو انتفاضة ثالثة، أو حرب مع غزة.. لكن تلك الحسابات غير مضمونة النتائج، وقد ينقلب السحر على الساحر، كما حدث في معركة سيف القدس سنة 2021.
في المقال القادم نستعرض إن شاء الله المسارات الفلسطينية المتوقَّعة سنة 2023 في البيئات العربية والإسلامية والدولية.