الكاتب: عبد الله أمين الخبير الأمني والاستراتيجي
إنها الضفة الغربية؛ شغلنا الشاغل، ونقطة ضعف عدونا القاتلة، إنها الضفة الغربية التي ودعت في هذا العام خيرة أبنائها، وفلذات كبدها؛ رعد حازم وعدي التميمي وإبراهيم النابلسي وتامر الكيلاني ووديع الحوح وجميل العموري ومحمد السعدي وعبد الله الحصري ورفيق دربه متين ضبايا، خيرة قادتها من خيرة أبنائها، ودّعتهم أمهاتهم بجلادة وصبر؛ أين منه صبر الخنساء على صخر، ودعناهم ونحن في أمس الحاجة لهم، خُطفوا من بيننا خطفاً، استهدفهم عدوهم لظنه أنه بتحييدهم سوف يردع من خلفهم، ويقصم ظهر من يقلدهم، ولكن ظنه خاب، وفأله خسر؛ فكانت شهادتهم منارة لغيرهم يسترشدون بها.
لقد ظفر بهم عدوهم لانقضاء أجلهم واصطفاء ربهم لهم، نعم، وهذا عزاؤنا، وما منه نستمد صبرنا ورباطة جأشنا على فقدهم، ولكن المسؤولية تفرض علينا أن نقول لماذا نجح عدونا في ضرب قادتنا وتحييد مقاومينا؟ إذ إن القدرة على تشخيص السبب، والإجابة عن هذا السؤال تمكننا من إسداء النصح، وتصويب المسار، علّنا بذلك نحقن دماء إخواننا، ونرفع أكلاف استهداف عدوهم لهم، فلا يَقتُل منهم قبل أن يقتلوا منه، ولا يجرحهم قبل أن يثخنوا في جرحاً.
هذه هي علّة هذه الورقة والدافع لكتابتها، مشيرين هنا إلى أننا كنا سابقاً قد تحدثنا عن استراتيجيتين أخريين – استراتيجية أين العدو؟ واستراتيجية من العدو؟ – يجدر بمقاومينا أن يُعملوا النظر فيهما لما تحملانه ـ فيما نحسب ـ من فوائد تساعد في إدارة معاركنا مع عدونا، فلا يوقع فينا خسائر، قبل أن نجبي منه أثماناً. إن هذه الورقة سوف تحاول الإجابة على سؤالها الرئيسي وهو: أيهما أفضل للمقاومين في مواجهة هذا العدو الصائل؛ الاختفاء أم التخفي؟ ـ من خلال التفصيل في عناوين أربعة هي:
أولاً: توصيف العدو:
ابتداءً، لا بد قبل الحديث والخوض في هذه المسألة الشائكة من أن نقدم توصيفاً سريعاً لأهم ما يتصف به عدونا الذي نريد أن نقارعه ونخوض معه المعارك لما في هذا التوصيف من فائدة، فالإنسان بطبعه عدو ما يجهل، ويخيفه ما خفي عنه، لذلك نشير إلى أن أهم الصفات أو نقاط قوة هذا العدو تكمن في الآتي:
سيطرة جغرافية أرضية:
فهذا العدو يسيطر سيطرة شبه كاملة على جغرافيا العمل وساحة العمليات؛ إما بذاته أو بأدواته، فهو يدخل إلى قرانا ومدننا متى شاء وكيف شاء، يعزلها عن محيطها، ويقطّع أوصالها، ويحاصر بقعة عملياته فيها قبل ولوجه لها، ليوفر لجنوده أفضل ظروف العمل وآمنها، فيدخل منفذاً لمهمته في أسرع وقت وبأقل الأكلاف، حتى لو تخلل ذلك اعتراض من هنا أو احتكاك من هناك.
سيطرة جوية:
كما أنه وفي الوقت عينه الذي يسيطر فيه على الأرض والجغرافيا؛ فإنه يسيطر على السماء والأجواء، فترى مُسيّراته الجوية تجوب منطقة العمليات، ومناطيد رصده تُطلق حيث شاء، إن نقطة قوة هذا العدو أمام جيوش المنطقة ـ النظامية منها وغير النظامية ـ تكمن في امتلاكه لسلاح جوٍ فاعل ومقتدر، يطيل يد عمله العملياتية حيث يشاء، فما بالنا إن قارنا (قدراتنا) الجوية بقدارته الجوية!!
سيطرة إلكترونية:
وهنا حدث ولا حرج؛ فهذه ساحته وملعبه الذي يفرض فيه الشروط، ونقطة قوته التي لا يضاهيه فيها في منطقة غرب آسيا؛ بل في العالم كله، مضاهٍ، ويكفي أن نستحضر الوحدة 8200 لندلل على قدرات عدونا الإلكترونية، وهي الوحدة التي تحصي أنفاس الناس وتعد عليه خطاهم! إن عدونا يتيح لنا مجالاً واسعاً ويفتح لنا أبواباً في هذا العالم ـ الإلكتروني ـ لعلمه أنه مسيطر عليه، وأنه قادر على التتبع والمتابعة، وأننا لن نحصي أبوابه الخلفية التي يلج لنا منها عبر هذه التقنيات؛ فضلاً عن أن نغلقها.
هذا لا يعني أن ننقطع عن هذا العالم وألا نحاول ولوجه؛ وإنما قصدنا أن نعلم أن هذه المساحة مساحة قوة لعدونا، فإن أردنا الدخول فيها؛ فلا أقل من التحوط والانتباه؛ فلا تثور الألغام في وجوهنا، ولا نؤخذ على حين غرة ومن حيث لا نحتسب!
سيطرة معلوماتية ذاتية أو بالواسطة:
ومن نتائج سيطرته على المجالات الثلاثة السابقة؛ تحقيقه سيطرة معلوماتية على ساحة العمليات؛ بشراً وحجراً، وهنا تتضافر قدرات العدو الذاتية مع قدراته بالواسطة عبرة عملائه ومصادره البشيرة التي تجوس خلال ديارنا ومدننا وقرانا، بل إنها ـ المصادر البشرية ـ تشاركنا أفراحنا وأتراحنا! فتصدح بالشعارات حين نصدح بها، وتسكب العبرات عند سكبنا لها!
هذه صفات (اقرأ نقاط قوة) لعدونا يجب أن نستحضرها عند الحديث عنه، لا من أجل أن تكبلنا أو تقيدنا؛ وإنما من أجل التحوط لها والاستعداد لمواجهتها، والتفلت منها والخروج عن شاشة راداراتها.
ثانياً: توصيف ساحة العمليات:
وإذ إن استحضار نقاط قوة عدونا تساعدنا على أخذ الحيطة والحذر منه؛ فإن التذكير بطبيعة ساحة عملياتنا يمكننا من الاستفادة منها على أفضل وجه، فخلاصة الفن العسكري والتكتيك القتالي يكمن في كيفية الموائمة بين الفرد والأرض والوسيلة، كما أن أي مقاتل أو قائد لا بد له من المعرفة التفصيلية عن عناوين أربعة ـ المهمة، الأرض، العدو، الذات ـ ليتمكن من القيادة بنجاح وتنفيذ المهام بأقل الخسائر وأسرع الأوقات.
لذلك جاء الحديث عن توصيف ساحة العمليات والذي يمكن أن يختصر بأهم الصفات ومنها:
طبوغرافيا مساعدة:
فأرض مدننا وقرانا وطبوغرافية فلسطين عموماً والضفة الغربية خصوصاً تتمتع بصفات ومواصفات مساعدة جداً على خوض معارك العصابات، والتقرب ومن العدو والاحتكاك به والاشتباك معه ضمن أفضل المواقف والوضعيات، ولكن هذا يتطلب معرفة الأرض معرفة تفصيلية دقيقة لا تغفل شاردة ولا ورادة، ففيها موارد وأسباب العيش، وفيها متطلبات الاختفاء والحماية عن نار العدو ونظره، إنها الأرض التي تَقتل جاهلها، ويَقتلها عالمها.
بيئة حاضنة: وكما أن الأرض بطبوغرافيتها تحتضن المقاتلين وتحميهم؛ فإنها بما تحويه من ديموغرافيا بشرية، تشكل حاضنة بشرية مهمة يمكن أن يستفاد منها ومما تكتنزه من قدرات وإمكانيات، ولكن بشرط أن نعرف قدرات هذه الحضانة ومتطلباتها، فلا نكلفها فوق طاقتها، ولا نجشمها عناء هي في غنى عنه.
إن الجغرافيا والديموغرافيا هما مركبا بحر سمكة الثائر الذي تسبح فيه وتنهل منه وتأوي له، فلا يجب أن تلوث هذه البيئة ولا يجب أن يسمح بأن تمس بأذى مهما صغر، فعظيم النار من مستصغر الشرر، يمكن العودة إلى مقالاتنا حول البيئة الحاضنة ففيها ما يفيد.
أهداف منتشرة:
فلا تكاد تخطئ عين الرائي أهداف العدو المنتشرة في طول بلادنا وعرضها؛ فهذه مغتصبات، وتلك معابر وبوابات، وطرق وممرات، لا تخلو من عابرين للمستوطنات، إن بيئة عملنا في الضفة الغربية يصدق فيها قول مثلنا الشعبي (وين ما بتظرب القرع بسيل دمه) فلسنا مطالبين بجهود استثنائية للبحث عن الأهداف أو تصيد الطرائد، فهي منتشرة على مد البصر.
متطلبات عمل بسيطة وسهلة:
ولكثرة هذه الأهداف وتنوعها وقربها وليونة بعضها، فهي لا تتطلب تعقيدات كثيرة لتحقيق الإصابات لا بل الإثخان فيها، وتحقيق الأضرار الكبيرة بالوسائل البسيطة، فلسنا بحاجة إلى صواريخ بعيدة ولا متوسطة المدى؛ فيكفي أن نمتلك وسائط قتال قوسية لا يتعدى مداها الثلاثة كيلومترات، أو عبوات لا تتجاوز الغرامات لنحقق في عدونا إصابات تطيش عقله وتفقده صوابه.
بعد هذا السرد السريع لتوصيف العدو وساحة العمليات، دعونا في العنوان الثالث نُعرف المصطلحات ونحرر العبارات، وبشكل بسيط دون تعقيد، لما ينبني على هذا التعريف من مقتضيات.
ثالثاً: تعريف المصطلحات:
استراتيجية الاختفاء:
إن استراتيجية الاختفاء وباختصار شديد، ودون الخوض في أي تعقيد تعني أن يختفي المقاومين عن شاشات رادارات عدوهم البشرية والإلكترونية، الجوية منها والبرية، فلا يظهرون إلا عند الفعل، ولا يعثر عليهم إلا عندما هم يردون ذلك، إنها تعني أن تَرى ولا تُرى، أن تَسمع ولا تُسمَع، أن تُراقِب ولا تُراقب، أن تسير بين الناس دون أن يعرفوك أو أن يخمنوا من تكون.
استراتيجية التخفي:
أما استراتيجية التخفي فهي تعني أن تجتهد ألا يشخصك الناس وألا يقرأوا كنهك، أن تظهر معهم في كل حين وفي كل مكان مستعيناً بما يموه عليهم ويشوش الصورة عندهم، أن تبذل قصارى الجهد والموارد حتى لا يراك عدوك أو أن يتعقب أثرك، إنها باختصار أن تغيب في الوقت الذي أنت فيه حاضر!
هذا باختصار شديد تعريف هاتين الاستراتيجيتين، ولا نريد أن نطيل البحث في تفاصيلهما، لنصل إلى زبدة البحث وأصل الهدف من هذه الورقة ألا وهو متطلبات الإجراء والتنفيذ، وهو ما يشكله عنواننا الرابع.
رابعا: متطلبات الإجراءات:
الاختفاء:
إن أهم متطلبات تطبيق استراتيجية الاختفاء التي نوصي بها في هذا المقام، حيث لا يجدي التخفي كثيراً أمام هذا العدو الصائل والذي من صفاته ونقاط قوته ما قلنا سابقاً، أهم متطلبات الاختفاء ما يأتي:
تحديد الأهداف والمهام:
إن أهم ما يساعد على تطبيق هذه الاستراتيجية هو تحديد المهام وتعريف الأهداف، فهما ـ المهام والأهداف ـ ما يفرضان على القائد والمقاتل طبيعة السلوك، وهما ما يحددان المتطلبات والإجراءات، ويفرضان الضوابط والسياسات، فإن كنا نريد في هذه المرحلة من صراعنا مع عدونا في الضفة الغربية للحفاظ على قدراتنا، وإطالة عمر مقاتلينا، والاستفادة مما بين أيدنا من قدرات بشرية ومادية متواضعة، إن كنا نريد تبنى استراتيجية الاختفاء؛ فحتى تنجح لا بد من تحديد المهام، وتخير الأهداف التي تتناسب مع هذه الاستراتيجية، في هذه المرحلة.
قيادة وسيطرة عالية الجودة:
كما لا بد من أن تمتلك قيادة المقاومة فيما بين الداخل والداخل،منظومة قيادة وسيطرة تساعد على تحقيق هدف الاختفاء، دون تقيد وتكبيل وشل لقدرات المقاومة على الحركة، وهنا يجب التفكير في أدوات ووسائل تحقيق القيادة والسيطرة الفاعلة والآمنة في نفس الوقت، فلا نؤتى من حيث لا نحتسب، ولا نشل الميدان ونوقف تفاعله من حيث لا نريد، وهنا يأتي دور أصحاب الاختصاص وأهل الفن، ليجترحوا الحلول ويهيئوا الوسائل.
قيادة لا مركزية:
ومما يساعد في تطبق استراتيجية الاختفاء عن رادارات العدو الآلية منها والبشرية، ممارسة القيادة اللامركزية على نشاطات وإجراءات المقاومة، فلا نضطر إلى الاتصال والتواصل اليومي والآني واللحظي مع المقاومين؛ في كل لحظة وحين.
وهنا قد يثور إشكال نابع من سؤال يقول: كيف نريد أن نقود لا مركزياً في الوقت نفسه الذي نريد فيه قيادة وسيطرة فاعلة وعالية الجودة؟ والإجابة باختصار ودون تفصيل يُطيل البحث، الجواب هو: كلما كانت المهام والأهداف واضحة والسياسات والضوابط مفهومة وغير ملتبسة، والاختصاصات محددة وغير متشعبة؛ كلما كان ذلك كذلك؛ يمكن أن تكون القيادة لا مركزية والسيطرة فاعلة وآمنة وغير مقيدة، وهذا بحث بحاجة إلى ورقة منفصلة يطول الحديث فيها.
جهاز دعم إداري:
ومن من متطلبات الاختفاء الذي يجب أن يسيطَر على إجراءات فعله، ويقاد بشكل لا مركزي، من متطلبات نجاحه وجود جهاز دعم إداري فاعل ونشط، يمثل منظومة الأعصاب التي توصل الإشارات وتنقل التفاعلات، جهاز لا يبدأ فقط من مجموعات الإيواء والنقل، ولا ينتهي بمراسيل الأوامر والتكاليف، جهاز حي فاعل يشبه بيوت النمل التي تعمل بلا كلا ولا ملل، ولكن بلا ضجيج أو صوت!
ترتيبات دعم وإسناد ناري مسبقة:
كما تطلب استراتيجية الاختفاء امتلاك جهات العمل ترتيبات وإجراءات تساعد في الاختفاء أثناء النقل والانتقال، إنها بحاجة إلى ترتيبات الدعم الناري الذي يوفر للمقاتل وسائط قتاله حيث حل أو ارتحل، يجدها قريبة منه إن احتاجها، وليست بعيدة عن مكان الاشتباك المخطط له.
فلا يحمل المقاتل هم نقلها قبل العمل أو إخفائها بعد الإجراء. إن كل ما على المقاوم فعله أن يصل إلى ساحة اشتباكه ومنطقة عملياته سالماً معافاً في بدنه، ليجد حث حل قوت يومه، وأدوات فعله.
صفر بصمات إلكترونية:
ومن أهم متطلبات هذه الاستراتيجية الوصول إلى قناعة بأننا يمكن أن نعيش وندير أعمالنا، وأن نتصل بمحيطنا العائلي أو العملي بصفر بصمة إلكترونية، فالحياة ليست موبايل ولا إنترنت! ويمكن العيش بدونهما، كما أن الفعل ينبئ عن نفسه، فلسنا في هذه المرحلة بحاجة إلى عراضات ولا مقاطع فيدوهات، فإن كان ولابد؛ فالتُفصّل المهام والاختصاصات، والتوزع الأعباء والأثقال، فللمقدمة أهلها، وللساقة ناسها.
إستراتيجية التخفي:
أما عن استراتيجية التخفي أمام هذا العدو، فنختصر القول بأننا لا نوصي بها في هذه المرحلة، فالتخفي يعني أن هناك طرف خيط يمكن أن يُتتبع فيصل العدو من خلاله إلى أهدافه، طال الزمن أو قصر، لذلك في هذه المرحلة من قتالنا مع عدونا في ساحة الضفة الغربية فإن أهم ما يعقد المشهد على العدو، ويربك إجراءاته؛ أن يختفي المقاومين عن شاشاته البلازمية، وأعين عملائه الأرضية، فيطيش سهمه وتثقل حركته، فيفقد زمام مبادرته، ونفاجئه من حيث لا يحتسب.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون