تتصاعد منذ بدايات هذه السنة عناصر التفجير في الضفة الغربية في فلسطين المحتلة، وهي قد تؤسس لبيئة قابلة للاشتعال والانتشار، يُمْكن أن تُعبر عن نفسها من خلال انتفاضة شعبية، أو اتساع دائرة المقاومة والعمل المسلح؛ وقد يترافق معها وَهَن أو تفكُّك المنظومة الأمنية للسلطة، وعجز آلة القمع الإسرائيلي، واتساع الحاضنة الشعبية للعمل المقاوم، وانفضاض الجماهير عن مسار التسوية وعن سلطة رام الله. غير أن هذه العناصر إذا لم يتم إسنادها ودعمها وتوجيهها بالشكل المناسب، فإن فرص الاحتلال الإسرائيلي والسلطة في امتصاصها والالتفاف عليها تبقى قائمة، كما حدث في مرات سابقة.
أول عناصر التفجير هو ما يحدث في المسجد الأقصى والقدس؛ حيث تصاعد العدوان الصهيوني عليها بوتيرة غير مسبوقة؛ وهي وتيرة مبرمجة وممنهجة تتولاها القوى اليمينية والدينية بعد أن هيمنت منذ سنوات على الحكم والسياسة في الكيان الصهيوني؛ وازداد تجذُّرها في مجتمعه. وتلعب “جماعات المعبد” دور رأس الحربة في الرفع التدريجي للسقوف، ومراقبة ردود الفعل، باتجاه تكريس واقع جديد على الرض كلما سنحت الفرص؛ وتحاول استغلال المواسم الدينية اليهودية كروافع ومحطات لتحقيق قفزات جديدة.
وتصبّ المساعي الحالية باتجاه تكريس التقسيم الزماني والتقسيم المكاني للمسجد الأقصى، و”التأسيس المعنوي” لما يُسمّى المعبد أو الهيكل مكان المسجد الأقصى. ولذلك، يحاول الصهاينة اليهود إدخال مظاهر عبادة يهودية في الأقصى كالسجود الملحمي ونفخ البوق وإدخال القرابين. كما بلغت اقتحاماتهم للأقصى أرقاماً غير مسبوقة منذ احتلال شرقي القدس سنة 1967، فزادت عن 50 ألف مقتحم منذ بداية هذه السنة.
وفي المقابل، فإن التجربة مع الاحتلال أثبتت أن الأقصى والقدس عنصر تفجير هائل للثورات والانتفاضات، وأن كثيرًا منها ارتبط بالدفاع عن الأقصى والمقدسات، وكان آخرها معركة سيف القدس في أيار/ مايو 2021. وهي معركة لا يخوضها الشعب الفلسطيني وحده، بل تخوضها الأمة التي يوحدها المسجد الأقصى والقدس.
ثاني هذه العناصر هو التصاعد اللافت للعمليات بكافة أشكالها. ففي هذه السنة أحدثت العمليات الفردية ضربات قاسية وصادمة للمجتمع الصهيوني، مثل عملية غالب أبو القيعان في بئر السبع (22 آذار/ مارس 2022)، وعملية ضياء حمارشة في بني براك (29 آذار/ مارس 2022)، وعملية رعد حازم في تل أبيب (7 نيسان/ أبريل 2022)، والعملية التي نفذها أسعد الرفاعي وصبحي أبو شقير في بلدة إلعاد قرب تل أبيب (5 أيار/ مايو 2022).. وغيرها؛ حيث أوقعت عدداً من القتلى، لم توقعه مثيلاتها منذ سنوات. كما تصاعدت عمليات إطلاق النار بشكل كبير عن السنوات الماضية (اعترف الاحتلال بـ130 عملية في الأشهر الثمانية الأولى، مقابل 98 عن الفترة نفسها السنة الماضية، و19 عن الفترة نفسها سنة 2020). وبالإضافة إلى ذلك، فقد اتسعت بؤر المقاومة في الضفة، وظهرت لها معاقل في جنين ونابلس، وأصبح رجالها أكثر جرأة وظهوراً، بينما اتسعت الحاضنة الشعبية الداعمة لهم.
هذا الفعل المقاوم، من ناحية ثالثة، أحدث إرباكاً في حسابات الكيان الصهيوني وفي حسابات سلطة رام الله؛ حيث لم تعد إجراءاتهما القمعية تُحدث التأثير المطلوب، وإنما تؤدي لآثار عكسية؛ بل وإلى تصاعد العمل المقاوم. فالسلوك والغطرسة الإسرائيلية التي رافقت اغتيال شيرين أبو عاقلة مثلاً أحدثت حالة غضب عارمة في فلسطين والعالم؛ كما أن هذه الغطرسة التي رافقت اعتقال الشيخ بسام السعدي أدت إلى تصعيد كبير ومواجهة كبيرة مع الاحتلال قادتها حركة الجهاد الإسلامي (5–7 آب/ أغسطس 2022). وهو ما ينطبق على الغضب والتضامن الشعبي الذي رافق اغتيال إبراهيم النابلسي ورفاقه (9 آب/ أغسطس 2022).. وغيرها. كما أن السياسة القمعية والتنسيق الأمني للسلطة في رام الله وسَّع من دائرة الاستياء والغضب تجاه دورها الخدماتي للعدو الصهيوني، والتي كان آخرها اعتقال المطارد مصعب اشتية في مدينة نابلس.
العنصر الرابع مرتبط بتعطّل مسار المصالحة الفلسطينية، وبتَسبُّب قيادة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية في إفشال هذا المسار، وبحالة الإحباط الواسعة في الوسط الفلسطيني تجاه هذه القيادة التي فقدت الثقة والمصداقية.. وتزايد القناعات بضرورة تغييرها كما تشير استطلاعات الرأي؛ مع تزايد الثقة بالمقاومة ورموزها. وهو ما يعني أن القيادة الحالية تفتقر أكثر من أي وقت مضى للحاضنة الشعبية أو “للشرعية الشعبية”، وبالتالي فإنها يصعب عليها أن تلقى آذاناً صاغية أو يُستجاب لنداءاتها.
ويرتبط بذلك عنصر خامس متعلق بفشل السلطة الفلسطينية، وتحوّلها إلى عبء على الشعب الفلسطيني، وعدم قدرتها على تلبية حتى الاحتياجات “الوظيفية” الخدماتية المعيشية للإنسان الفلسطيني؛ بحيث أصبحت أثمان الاعتراف بالكيان الإسرائيلي والتعاون مع الاحتلال وقمع المقاومة، أكبر بكثير من المردود الخدماتي الاقتصادي التي تحاول السلطة أن تُقنع الفلسطيني به. وبعبارة أخرى، فإن هذه السلطة في طور “التآكل”، وتفقد كل يوم المزيد من مبررات وجودها.
أما فشل مسار التسوية السلمية، وانعدام الأفق السياسي، وانهيار حلّ الدولتين، فهو عنصر سادس، يدفع الإنسان الفلسطيني للالتفاف بشكل أوسع حول خيار المقاومة بكافة أشكالها وعلى رأسها الكفاح المسلح، وهو ما تشير إليه استطلاعات الرأي أيضاً.
وربما أمكن إضافة عنصر سابع مرتبط بحركة فتح وانقساماتها والصراع على وراثة رئيسها محمود عباس، وحالة الإرباك والتشظي التي تعاني منها خصوصاً بعد تعطيل الانتخابات ومسار المصالحة الفلسطينية. هذا، في الوقت الذي تُصرّ فيه قيادتها على استمرار هيمنتها على منظمة التحرير وعلى السلطة الفلسطينية، والتمكين لشخصيات لا تحظى بقبول لدى الشارع الفلسطيني. وهو ما يزيد من حالة الفراغ والقلق التي تشهدها الساحة الفلسطينية، والخشية من حالة التنافس واللا استقرار التي قد تشهدها الضفة الغربية بعد وفاة أبي مازن.
* * *
سيسعى الكيان الإسرائيلي على الأرجح إلى محاولة امتصاص عناصر التفجير في الضفة الغربية، من خلال بعض التسهيلات الاقتصادية، والسماح لمزيد من أبناء الضفة الغربية بالعمل في فلسطين المحتلة 1948. وسيترافق ذلك على الأرجح مع مزيد من القمع والبطش بالمقاومة ورجالها لإحداث أكبر ردع ممكن؛ كما سيدفع باتجاه المزيد من التنسيق الأمني مع السلطة في رام الله، والمحافظة على ما تبقى لها من “سلطة” أو “هيبة” للاستمرار في ممارسة مهامها.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الاحتلال سيقرأ بدقة وحذر ردور الأفعال على برنامجه التهويدي العدواني في المسجد الأقصى والقدس؛ وسيحاول أن يدير وتيرته بطريقة لا تصل إلى تفجير الأوضاع. وفي الوقت نفسه، سيراهن الجانب الإسرائيلي على ضعف الوضع العربي وتشرذمه، وعلى اختراقاته التطبيعية في المنطقة، وحصار قوى المقاومة، وانشغال العالم بالحرب في أوكرانيا، باعتبارها عناصر تعينه في الاستفراد بالملف الفلسطيني.