صدر كتاب للأسير حسن سلامة المحكوم ثمانية وأربعين مؤبدًا يروي قصته التي استمرَّت أربع عشرة سنة في زنازين العزل الانفرادي في السجون الإسرائيلية، هل دقَّقنا في هذه الأرقام؟ هل أدركنا الحجم المريع لهذه المسافة الزمنية وهذا الإنسان في مكان ضيِّق تحت مطارق التعذيب والتنكيل والإهانة والتحقير؟ ومن هؤلاء الذين يمارسون عليه هذا التعذيب؟ هم أشدُّ خلق الله عنصرية وعدوانية وساديّة وقل ما تشاء من أوصاف الحقد والكراهية، عندما تطالعنا هذه الأيام فيديوهات لرجال يعترفون بما فعلوا من مجازر أيام النكبة واحتلال البلاد بصور بشعة جدًّا يقتلون ويحرقون، وعندما يُسأل أحدهم عن عدد الذين قتلهم فلا يدري كم، هم كثيرون لم يستطِع إحصاءهم عددًا.
ويرصد حسن سلامة أشكالًا كثيرة من التوحّش وصبّ أسواط العذاب بأسوأ طرقها وألوانها على هذا المعتقل الذي يستفردون به في زنازينهم: كيف يتحكّمون في كلّ مفاصل حياته: طعامه وشرابه وحركته وهوائه والأصوات الصاخبة المحيطة به ليل نهار، يرصدون كل ثانية ودقيقة وساعة ويخرجون له بكل ما يجعله في حالة من الألم الدائم على مدار الأربع والعشرين ساعة، وعن العلاج لمرض أو وجع أسنان فحدِّث ولا حرج، حينها يدخل عزل داخل عزل، ويعدونها فرصة ذهبية لهم، إذ “يتمزمزون” على صوت آلامه، يمكث طويلًا ليحظى بالخروج إلى العيادة أو رؤية طلّة الممرض البهيّة! وهذا بدوره يدخله حقل تجاربه ليزوّده بعد طول انتظار بالدواء تلو الدواء الذي لا يمتّ بصلة إلى مرضه، وإذا تطلّب الأمر مستشفى فهذا من سابع المستحيلات إلا في ظروف استثنائية صارمة لينقل في بوسطة خاصة وبحراسات مشدّدة وقيود مضاعفة، إذ تربط الأيدي والأرجل ثم تربطا ببعضها بعضًا، وهناك في المستشفى عزل خاص للمرضى المعزولين.
كيف مضت أربع عشرة سنة؟ وكيف كان يناجي نفسه؟ وأين كانت تذهب به أفكاره ومشاعره؟ كيف يقضي يومه بين هذه الجدران القاسية وفي معمعة زنازين لأسرى عتاولة المجرمين الجنائيين اليهود؟ وهذا عذاب إضافيّ إذ يسمع صراخهم بلغة سوقية ومسبّات لا تخطر على قلب بشر، هؤلاء يقضون الليل صراخا بأقذع الكلمات النابية، فيضطرّ الأسير المعزول ليسهر الليل وينام النهار، وهنا تذهب عليه ساعته من الخروج للفورة (الساحة الخارجية) وأيّ فورة؟ ساحة صغيرة في الغالب لا تزيد على مساحة غرفة تحيط بها أسوار عالية جدًّا لترى نفسك وكأنك في قعر بئر وبالطبع مسقوفة بشبك حديدي محكم وتسير فيها وأنت مكبل القدمين.
في هذا الكتاب الذي يأخذ أنفاسك ويقلّب كل المواجع التي عرفتها البشرية تجد الصورة التي يتحلّى بها هذا المحتلّ على حقيقته، لا يمكن أن تتسلل لهذه الشخصية أي مشاعر إنسانيّة أو مشاعر تقول لك إن من يملكها له علاقة بالبشرية، إنهم من جنس آخر لا يعرف قيمة ولا عرفًا ولا قانونًا قرَّرته البشرية حول الأسير وحقوقه والاعتبارات التي يجب أن تؤخذ، أبدًا لا همّ لهم إلا فنون التنكيل والتعذيب، إذ إن من المعروف عرفًا أن جنديًّا من صفوف العدوّ قد وقع أسيرًا، فإن له من الحقوق ما له، وله حرمة وقيمة يجب أن تُراعى ولو بحدّه الأدنى، هؤلاء لا يعرفون إلا كيف يعذبونك؟ كيف يبقونك في حالة دائمة من التوتّر والشعور بالألم؟ كيف يوصلونك إلى حافّة الموت أو الجنون؟
أمّا أن يخرج سلامة من آلة العذاب هذه سالمًا ويكتب لنا عن تجربة الخمسة الآلاف يوم، فهذا شيء عظيم يدلّ على طبيعة شخصيّة الكاتب، شخصية فذّة قويّة في إيمانها بربّها وعدالة قضيتها، متماسكة ببنيانها القويم، فريدة في عنفوانها ورسوخها في مبادئها التي تؤمن بها، حسن سلامة تضيق الكلمات والسطور في وصف شخصيّته سوى أنّها ذات فرادة نادرة وذات تميّز قلّ نظيره في البطولة والفداء والثبات والمراغمة العالية في أصعب مواقع الرباط.
الكتاب ثريّ جدًّا يحمل تجربة عظيمة تستحق أن تُقرأ وتدرّس لطلاب العزّة والتمكين والتحرير وكل من رام شجاعة الرجال وصمود الأبطال.