منذ الإضراب الأخير للشيخ خضر عدنان، كنتُ أجد كلمات التضامن معه وتوصيف حالته قاصرة وهزيلة، وكانت أي صياغة إنشائية تبدو هشة وواهية، إذا ما اقترنت بتعاظم مسيرة صموده العالية والممتدة، الفذة والصعبة، وغير القابلة للكسر أو إعلان الاستسلام، فكيف اليوم وقد قضى الشيخ في ميدان معركته؟ أي شيء يمكن أن يفي الرجل حقه أو يحيط بملامح تلك الظاهرة الفريدة التي مثلها، وظلّ ماضياً فيها والرماح تتناوشه من كل اتجاه، وخطواته قد أدماها استهداف الاحتلال إياه، وملاحقة أجهزة السلطة له، ومحاولاتها تهشيم صورته والنيل من رمزيته، والتأثير في مكانته التي اختطّها بجهده وصبره وجهاده، وإحساسه العالي بواجب المداومة على الفعل والحضور في كل ميدان.
منذ أحد عشر عاما، ظلّ الشيخ خضر يواجه كلّ اعتقال بإعلان الإضراب عن الطعام منذ لحظة أسره الأولى، فيرفع لواء التحدي إلى أقصى حد، ويتزنر بإيمانه ويقينه وإصراره، لا يكترث بحسابات التعب والجوع وتهاوي الجسد، بل كان يجلب الضوء إلى عتمة زنزانته رغماً عن سجانه، فيفيض بهاؤه على المتنعمين بحريتهم الشكلية خارج أسوار السجون، فيغمرهم نور ودفء الإرادة المنبعثة من خلف القضبان حتى لو أقعدهم الخوف وتقاصرت هممهم عن تسجيل تضامن خجول مع الشيخ في معركته المضنية.
ثم لم تلبث ظاهرة خضر عدنان أن انتشرت في أوساط الأسرى، فتكاثرت حالات التمرد على السجان، وإعلاء الجوع سلاحاً في وجهه، وصولاً إلى تحقيق إنجازات، وهي وإن كانت صغيرة في وزنها الفعلي، لكنها كبيرة في قيمتها المعنوية وأثرها الخفيّ، لأنها كانت أكبر من مجرد إضراب يخوضه أسير في زنزانة منسية، كانت إعلان مقاومة لهامات لا يثنيها الأسر عن مواصلة مسيرها، وكانت فرض إرادة تتجاوز حاجات الإنسان الطبيعية للطعام والراحة، وكانت تحدياً للسجان في ميدانه وكسراً للأغلال حتى وهي تقيّد الأيدي والأرجل، وكانت تجسيداً لدور الأصيل صاحب الحق، في مواجهة الدخيل المتكئ على جدار البهتان.
واليوم، فإن رحيل رمز الإضراب الأبرز ليس طبيعياً ولا يجوز أن يكون عاديا، فهو من جهة رحيل محفوف بالجلال وبإدراك كنه ما ظل الشيخ خضر يقاتل من أجله، وهو من جهة أخرى نتاج عملية اغتيال متعمدة، بترك الشيخ يواجه الموت للخلاص منه، بما يمثله من ظاهرة متمردة على الطغيان بكل تفاصيله وألوانه، سواء كان خارج السجن أو داخله، وما يجسّده من فاعلية ميدانية لا تفتر، وما ظلّ يقدمه من تحفيز على الثورة والصمود، مشفوع بتقدمه ميدان الفعل، وهو الذي لم يرتضِ لنفسه دور الواعظ والمحرّض السلبي، بل كان ملزماً نفسه بكل فكرة يدعو لها الناس ويحثّهم عليها.
شاهدنا وعايشنا الشيخ خضر في مواقف كثيرة، وما رأيناه إلا رجلاً عزيزاً أبيّا، يفاصل حيثما وجبت المفاصلة، يتعالى على الجرح متى لزم ذلك، يصدح بالحق في وقته ومكانه، لا يتخلّف عن نصرة مظلوم أو مواجهة ظالم، يتمركز في قلب كل قضية وطنية، ولا يشغل نفسه بتوقّع الأثمان ولو كانت غالية، فهل كان المحتل سيغضّ الطرف عن رجل مثله؟ أما كان سيخلص إلى ضرورة تغييبه وتحييده، كما فعل مع آخرين ممن حملوا سمات القيادة والتأثير بجدارة، وكانوا أعمدة متينة في ساحات فعلهم ومجالات نشاطهم.
باستشهاد الشيخ خضر عدنان، لم يسدل المحتل آخر ستار على مشهد العنفوان، ولم يغلق كتاب مواجهة السجان، ولم يسدّد ضربة قاضية لرجال المرحلة، فقد ولّى الزمن الذي يقول فيه المحتل كلمته ثم يعمّ الآفاق وجوم مرهق، فهذا زمن مختلف، وتفاعلاته حية ومتسارعة، هذا ما تقوله التجربة خلال العام الأخير -على الأقل-، وبقدر ثقتنا بقبضات الأوفياء بالعهود، فإن واجب الشيخ علينا جميعاً ألا نفرّط بقضيته، وألا نستسهل تجاوزها، وألا نغيّب أثره وما مثّله وما ظل يبثّه من معانٍ جليلة وعظيمة، في صموده وإقدامه وشجاعته وإرادته، وفي تحديه لكل من راموا تغييبه وكسره وتهشيم صورته، وإصراره على المجابهة، حتى لو كان وحده، وحتى آخر رمق في كنانة روحه.