كان ذلك يوم 14 تشرين الثاني من عام 2012 وذكرى معركة “حجارة السجيل”، حين بدأ العدو عدوانه الغادر على قطاع غزة الصمود، وقد بدأ باغتيال نائب القائد العام لكتائب الشهيد عز الدين القسام أحمد الجعبري.
بطل مغوار رفع لواء الجهاد منذ نعومة أظفاره، وقد ترك أثراً عميقاً لا يُمحى في سفر المجد الفلسطيني، لقد ترجل الفارس مهندس صفقة وفاء الأحرار، وهو الذي درس مَلِيّاً وسَبَرَ غَوْرَ عقلية ودهاء العدو العنصري المجرم، ولقنهُ درساً لن ينساه حين فرض على العدو بحكمته وأناته وَبُعْدِ نَظَرِه إطلاق سراح 1029 من أسرى وأسيرات شعبنا في عملية وفاء الأحرار التي سجلت نصراً مؤزراً، وكان العدو وفي أضغاث أحلامه يحاول ممارسة الضغوط على وفد حركة حماس، بأن جُلّ ما يمكن إطلاق سراحهم لن يزيد على 60 معتقلاً ممن أنهوا محكومياتهم أو يكادون وحتى من العمال الذين تجاوزوا السلك الشائك الزائل من الضفة المحتلة أو من قطاع غزة.
لقد ناور العدو سنين طوالا ولكن دون جدوى، وكان الشهيد البطل يعلم كيف يرد وكيف يحاصر ضباطه خلال المفاوضات غير المباشرة التي أشرف عليها الأشقاء في مصر.
كان وفد العدو يحاول أن يُوهِمَ الوفد الفلسطيني بأن هناك مُحرمات لا يمكن أن يتم تجاوزها وتتمثل في أنه لن يطلق سراح أسرى من مناطق 1948، وكذلك من القدس، أو من الأسرى الذين أعدموا جنوداً أو مستوطنين، وكما أسماهم “الملطخة أيديهم بدماء اليهود”، وأيضاً من الأسرى العرب في سجون الاحتلال، إلى جانب المحكومين بالمؤبدات.
وَصَمَدَ الشهيد الجعبري وفريقه المفاوض لــــــ 5 سنوات وَنَيّف حتى تمكن من إطلاق سراح 500 من الأسرى الذين صَنَّفَهُم العدو على أنهم من المحرمات، إلى جانب بقية الأسرى الأبطال، في الوقت الذي كان العدو يخشى أن تقوم كتائب القسام بأسر جنود جُدد.
لقد كان صموداً أسطورياً خلال ماراثون التفاوض الذي اُطلقَ فيه سراح رجال من جميع الفصائل الفلسطينية، فكان عُرساً شعبياً وطنياً بامتياز تَنَسَّمَ فيه الحرية رفاق السلاح الذين خاضوا معارك العِزَّة كَتِفاً إلى كتف خارج وداخل سجون العدو النازي المجرم. وكما قال وزير الحرب الصهيوني الأسبق إيهود باراك الذي أسقطته معارك “حجارة السجيل”، أنه لن ينسى مشهد شاليط وهو في قبضة القسام.
وكان العدوان نذير شؤم ارتد خلاله السحر على الساحر، وتوالت الصدمات حين فوجئ العدو بقصف تل أبيب ولأول مرة في تاريخ الصراع، بصواريخ M75 مَحلّية الصنع ولتؤكد للعدو أن المقاومة ورداً على مغامراته الحمقاء تُلْقِمُهُ دوماً بحجارة من سجيل رغم هستيريا القصف الجوي والمدفعي الذي قام به والذي استهدف المدنيين نساءً وأطفالاً دون أن يَفُتَّ في عَضدِ كتائب القسام وفصائل المقاومة الباسلة، التي حافظت على وتيرة قصفها حتى اليوم الأخير والتي أضافت أيضاً صواريخ فجر 5 والكاتيوشا ومدفعية الهاون وواصلت أيضاً رمايتها لتصل إلى القدس وبئر السبع، كما أمطرت عسقلان وسديروت وسدود بمئات الصواريخ.
ثمانية أيام زلزلت العدو وقد سجَّلت في سْفر التارخ أنها المرة الأولى التي يتقدم فيها العدو بطلب لوقف إطلاق النار عبر حليفه الأمريكي، وقد جاء ذلك من خلال اتصالات أجراها الرئيس الأمريكي في حينه باراك أوباما مع الرئيس المصري محمد مرسي وأمير قطر الأب حمد آنذاك، وكذلك مع الرئيس التركي أردوغان.
وكان أوباما يتصل في الأيام الأخيرة بمعدل مرتين مع هؤلاء الرؤساء تحت دعاوى حقن الدماء، في الوقت الذي قامت فيه وزيرة خارجية أمريكا هيلاري كلينتون بدبلوماسية مكوكية للمنطقة ولبعض الدول الأوروبية لهذا الغرض.
ولا بد من التذكير هنا أن 15 وزير خارجية أوروبي زاروا القاهرة، وقد كانوا يعلمون حقيقة الوضع الميداني لجيش الاحتلال ويسعون نحو وقفٍ لإطلاق النار.
ثمانية أيام اهتز لها عرش الجيش الذي قالوا يوماً إنه لا يُقْهَر، في الوقت الذي كانت فيه غزة الانتصار ورغم الجراح النازفة تستقبل فيه وبكامل عنفوانها 13 وزير خارجية عربيا ومن بينهم وزير الخارجية التركي الأسبق أحمد داود أوغلو.
غزة العزة ترفع رأسها أيقونة في السماء، وشهيدنا البطل أحمد الجعبري “أبو محمد” قائد أركان المقاومة، ترك وراءه رجالاً مَرّغوا أنف العدو في الوحل، وهم يُحَرِّمون أجواء غزة على طائراته الحربية والمروحية “الأباتشي” ويفرضون على 5 ملايين مستوطن النزول إلى الملاجئ كالجرذان وعلى أكثر من ½ مليون مستوطن حول قطاع غزة الهرب مذعورين إلى الشمال ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
البوارج تستهدفها الكاتيوشا، وأرتال دبابات العدو ومرابض مدفعيته تحت نيران الصواريخ ومدافع الهاون، ويَستمرُ الصراع وتتطور كتائب القسام وفصائل المقاومة الحيَة الأخرى بوتائر يعلم العدو أنها على طريق إنهاء أسطورته المكذوبة، بعد 10 سنوات من الصراع الدامي، وكما أكدته المعارك المجيدة في الأعوام 2014 لـ51 يوماً مجيدة، ومعركة 2018 حين ضُرِبَ جهاز استخبارات العدو في مقتل مع كشف وحدة نخبة جيشه الـ “سيريت متكال”، وجائت معركة “سيف القدس” وذاك الانعطاف التاريخي في حزيران 2021، لتُشكّل بداية العد التنازلي للكيان الاستيطاني وقد توحد الشعب في كل فلسطين المحتلة وفي بلدان اللجوء والشتات خلف مقاومته الباسلة المظفرة.
الضفة تنتفض شمالاً وجنوباً، وأبطال المقاومة يحاصرون حواجزه في نابلس وجنين وبيتا، وبيت دجن وبُرقة وبيت فوريك وطوباس ويهاجمون مستوطناته في معاليه أدوميم وكريات أربع وأريئيل، وغزة الرباط تضع الإصبع على الزناد ضمن إستراتيجية حرب الشعب، يبتدعون ويطورون ما أُتيح لهم من سلاح على أرض خبروا شعابها وحفظوها عن ظهر قلب وبكل صلابة واستعداد لكل التضحيات، وحدةٌ وتكاملٌ حتى العودة للتحرير.