حكاية الرمز في سياقاتنا العربية كاشفة بقدر ما هي معقّدة، وحينئذ يصير الحديث عن عناصر الكشف التي فيها صعباً إلى حدّ ما، لا للتعقيد الذي يحفّ الرمز فحسب، ولكن لأنّ سهولة توظيف الرمز من القوى السائدة، سياسية أم اقتصادية أم إعلامية، أم ذلك كله مجتمعاً، تعني أن يكون هذا الحديث معاكساً لتلك القوى، وللمجرى الذي قُذِفَ فيه هذا الرمز بقوى الدفع تلك.
يمكن أن نستدعي جملة من الرموز، التي تجمع الجماهير بها عاطفة خاصّة، ونفحص اختلاف موقع الرمز بحسب فاعليته وما يعبّر عنه، أو بحسب توظيفه، وبما قد يعاكس جوهريّاً أصل تلك الفاعلية، التي تحصّلت له في سياقات استمدّ رمزيته منها، وبما يُغَطّي على التنكّبِ لتلك السياقات، مثل العلم والنشيد الوطني والبندقية، وهي رموز، في سياقنا الفلسطيني، كان لها مفعول السحر في علاقة الجماهير التبادلية بها، فالرمز والحالة هذه لم يكن معبّراً عن كفاح الفلسطينيين فحسب، أو أداة في القتال كما هو شأن البندقية، ولكن كان يمكن أن يُقتل الفلسطيني أو يُسجن أو يُجرح لحرصه على رفع الرمز وتكريسه وحمايته.
في الانتفاضة الأولى، كانت قوات الاحتلال تقتحم القرى والمدن والمخيمات لإنزال العلم الفلسطيني المرفوع فوق الأعمدة ومآذن المساجد، وتطلق النار على من يرفعه، ولا شكّ أن كثيراً من الشبان الفلسطينيين اعتقلوا في ذلك الوقت بتهم كان منها رفع العلم الفلسطيني. بعد تأسيس السلطة الفلسطينية، لم تنته مشكلة الاحتلال مع الفلسطينيين، لكن بدا وكأنّه لا مشكلة للاحتلال مع العلم الذي كان يقتل حامليه للتوّ. الذي اختلف، والحالة هذه، لا ألوان العلم، وإنما السياق الذي صارت تُوَظّف فيه رمزيته، ولأن هذا السياق صار بديلاً عن السياق الكفاحي، نُفِخ في هذه الرمزية، بجعلها انتصاراً محضاً، بالقول إننا حققنا إنجازاً برفع العلم دون قتل أو سجن على مرأى الاحتلال، الذي سلّم لنا بذلك أخيراً!
لوهلة، للذي كان يغامر بحياته أو بحرّيته لتعليق علم على عمود كهرباء، يبدو في الأمر انتصار ما، بيد أنّ تصوير الأمر على هذا النحو، لا يستخدم الرمز للتغطية على واقعة سياسية مناقضة جوهريّاً لكفاح الفلسطينيين فحسب، ولكنّه يعيد تعريف ذلك الكفاح على نحو محرّف. أي هل كان يقاتل الفلسطينيون ليرفعوا علمهم في شوارعهم دون خوف، أم قاتلوا لتحرير أرضهم من الاحتلال، وكان علمهم حينئذ معبّراً عن هويتهم المناقضة لسردية العدوّ، وعن قتالهم ومطالبهم بالحرّية والاستقلال الكاملين؟!
ارتبطت البندقية بالثائر والفدائي، وبما أن الثورة الفلسطينية المعاصرة، كانت ثورة لاجئين خارج الأرض المحتلّة؛ جمعت الفلسطينيين في الداخل والخارج أشواق إلى أن ينتهي مطاف الفدائي داخل فلسطين، وهو ما حصل بتأسيس السلطة، إلا أنّ الأهداف التي قاتل من أجلها الفدائي لم يتحقّق منها شيء إلى اليوم، وإن كانت الدهشة متحصّلة مع بدايات تأسيس السلطة؛ والفدائيون يدخلون غزّة وأريحا، والجماهير في الضفّة الغربية، قبل أن تستكمل السلطة دخولها بقية المدن، تزحف إلى أريحا اقتراباً من الفدائيين وتعرّفاً إليهم وسعياً في إكرامهم وبحثاً عن الفخر بمعرفة بعضهم.
المشهد غاية في العاطفية والسحر، ولكنه سريعاً ما انكشف عن أنّه لم يكن تحريراً ولن يفضيَ إلى تحرير، وإنما إلى تطبيق بند “إعادة الانتشار” في اتفاقية أوسلو، بحيث يصير الفدائي قوّة محلّية عازلة، وهكذا يعاد توظيف رمزية الفدائي، ويختلف موقع البندقية في يده حتى وإن ظلّت على الكتف نفسه، كما يختلف موقع “نشيد فدائي” الذي تبادل الدور مع “نشيد موطني” بوصفه النشيد الوطني الفلسطيني، الذي كانت أشرطته محظورة في الانتفاضة الفلسطينية الأولى.
صحيح من جهة، يمكن الاستدلال بسلوك الجماهير، على عمق المعنى للقضية الفلسطينية في الوعي الجمعي لتلك الجماهير، وأنّ سياسات التطبيع، والاصطفاف التحالفي الذي يجمع دولاً عربيّة بـ”إسرائيل”، وعمليات الضخّ الإعلامي والثقافي التي كانت ترمي إلى طمس فلسطين نهائيّاً من وعي تلك الجماهير، لا يمكنها تحقيق النجاح المطلق، وأنّ هذه القضية أكثر عمقاً من أن يتمكّن النظام الرسمي العربي العازل، من مسحها نهائياً والتخلّص منها، لكن المشكلة حينما يكون هذا هو الموضوع الوحيد في هذا المشهد.
ما هي قيمة العلم الفلسطيني، بوصفه رمزاً لكفاح، أو معبّراً عن هويّة مُكذِّبة بالكامل لسرديّة عدوّ محتلّ، حينما يكون إمكان رفعه في بلد عربيّ متساوياً مع إمكان رفع العلم الذي يعبّر عن السرديّة الزائفة التي تتمتع بالقوّة المستخدمة يوميّاً وبلا كلل لنفي الوجود لحملة العلم الأوّل؟!
ما هي قيمة العلم الفلسطيني، بوصفه رمزاً لكفاح، أو معبّراً عن هويّة مُكذِّبة بالكامل لسرديّة عدوّ محتلّ، حينما يكون إمكان رفعه في بلد عربيّ متساوياً مع إمكان رفع العلم الذي يعبّر عن السرديّة الزائفة التي تتمتع بالقوّة المستخدمة يوميّاً وبلا كلل لنفي الوجود لحملة العلم الأوّل؟! وإذا تعدّينا قطر، إلى بلاد عربيّة أخرى، فإنّ رفع العلم الإسرائيلي أسهل، وبلا كلفة، من رفع العلم الفلسطيني. هل يمكننا أن نتوقّع أصلاً أنّ بلداً عربيّاً، ممن يقيم علاقات مع “إسرائيل”، يمكنه أن يسجن إسرائيلياً لرفعه علمه؟! لكن يمكن أن يحصل ذلك للفلسطيني بالفعل. وهل يمكننا في المقابل توقّع تجمّع فلسطيني يرفع علمه وصوته بالنشيد في بعض تلك الدول التي تقيم علاقات مع “إسرائيل”؟! هل يمكن للفلسطيني أن يدخل سيناء، مثلاً، ويقيم فيها احتفالاً وطنيّاً كما يمكن للإسرائيلي؟! أم هل يمكنه أن يفعل ذلك في بلاد خليجية أخرى باتت تقيم علاقات مع “إسرائيل”، وتصطنع خطاباً معادياً للفلسطينيين؟!
بل إنّ العلم الفلسطيني صار أزمة في السجالات “الوطنية” في بعض البلدان العربية حينما يرفعه لاعب، أو ناشط، من تلك البلدان تضامناً مع الفلسطينيين، فبدلاً من النظر إليه بوصفه تقديراً لكفاح الفلسطينيين من إخوانهم العرب، يصير النظر إليه بوصفه تعبيراً عن هوية مناقضة لهذه الدولة العربية أو تلك، مع أنّ الهوية الفلسطينية لا تناقض إلا الهوية الإسرائيلية التي تقوم على نفي الفلسطيني تاريخاً وواقعاً! صحيح أن ذلك يكشف عن هشاشة الوطنيات العربية الحديثة حينما، وبسبب أنّ مواطناً منها رفع العلم الفلسطيني، تُستَنفَر ضد شعب ما يزال يعاني الاحتلال، وتحاول أن تتمنطق بالقوّة في مواجهة “فرصة ضعيفة”، ولكنه يُظهر في الوقت نفسه انحدار الموقف العربي من القضية الفلسطينية، وانزياح رمزية العلم الفلسطيني، من كونه رمزاً للكفاح إلى كونه رمزاً لدولة، للمفارقة هي غير موجودة بعد!
يمكن قول الشيء نفسه، بخصوص رفض المواطنين العرب إجراء لقاءات مع القنوات الإسرائيلية في مونديال قطر. فما يهمّ الإسرائيلي قد أنجزه، بطوي المسافات بينه وبين البلاد العربية، وقطعه الشوط الأكبر في فرض وجوده على المنطقة، لا بالترتيبات مع أنظمتها السياسية فحسب، ولكن، وبما أنّ الحديث عن التلفزيون، من القنوات التلفزيونية العربية كذلك. يمكن للإسرائيلي أن يظهر ضيفاً في قنواتنا التلفزيونية، وأن يشاركنا المؤتمرات والفعاليات باختصاصاتها كلّها، وأن يزور بلادنا، ولكننا نحتفي بمواطن عربيّ رفض أن يجري مقابلة مع قناة إسرائيلية! لا ينبغي أن نغفل، والحالة هذه، أن دخول الإسرائيلي لبعض البلاد العربية، أسهل بما لا يقارن مع دخول الفلسطيني لها!
لكن، أخيراً، فلنستدع الذاكرة ونتساءل: كيف كان حالنا في سبعينيات القرن الماضي؟ لا من جهة المقاطعة العربية لـ”إسرائيل” فحسب، ولكن من جهة هيبة الفلسطيني، شخصية وكفاحاً. ثم فلننظر إلى الفلسطيني اليوم، كيف يتساوق مع هذا التوظيف للرمزيات، بما يتناقض من إرث هذه الرمزيات وما ينبغي أن تكون عليه في تعبيرها عن كفاحه!