خلص إبراهيم مرعي، وهو أسير فلسطيني، في مقالة مطولة له إلى ضرورة إعادة الاعتبار إلى تحرير فلسطين، محددًا معالم ذلك، بما يشمل الدعوة إلى إجماع فلسطيني جديد يستعيد الإجماع الأصلي وهو “تحرير فلسطين”.
فيما يلي نص المقالة التي نشرتها مجلة الدراسات الفلسطينية في عددها 136:
برزت في المراجعات الجادة في العقدين الأخيرين إعادة الاعتبار إلى العديد من المصطلحات والمفاهيم الأساسية التي كانت بُنيت عليها التصورات والمحددات البكر الأولى لطبيعة الصراع القائم في فلسطين، والتي عرّفت أطرافه بتعريفات بالغة الوضوح. لكن بفعل عوامل الحتّ والتعرية، فقد دَرَست تلك المفاهيم والمصطلحات، ووصل الاغتراب عنها إلى ذروته في اللحظة الأوسلوية التي بلغ فيها فقدان المعنى أقصاه!
في بعض تلك المراجعات التي جاء كثير منها في واقع الأمر، كردة فعل عكسية على بؤس اللحظة الأوسلوية، وجرّاء الوعي المتأخر بفداحة كارثيّتها، وفي إثر اليأس أيضاً، من أي رهان أو أمل يُرتجى ممّا كان يُدعى مسيرة أو عملية السلام، أو “حلّ الدولتين”، تتفاجأ تلك المراجعات بمَن أعاد اكتشاف أننا نعيش حالة “استعمارية”، وأعاد تعريف الصهيونية و”إسرائيلها” بأنها حالة كولونيالية متناسلة من حقبة الاستعمارية المديدة. وفي مثل تلك المراجعات التي أعادت الاعتبار إلى مصطلح “استعمار”، لا يصعب على المدقق أن يُحصي في المقالة الواحدة ذات الصفحات العشر مثلاً، ورود مفردة “استعمار”، أو “كولونيالية”، وتصريفاتهما، من دون الضمائر الملحقة بهما، ستين أو سبعين مرة إن لم يكن أكثر! كأن تكرار المفردة يأتي في حد ذاته، تعبيراً عن حالة الاحتفاء بالاكتشاف الجديد ونأكيده وترسيخه.
وكان بين هؤلاء المراجعين مَن امتلك الشجاعة، وقاده هذا المنطق الذي أعاد تعريف الصهيونية بأنها حالة كولونيالية ذات شحنة عنصرية مثقلة، إلى خاتمة تسلسله السليم، وذلك بإعادة تعريف حالة المواجهة التي يفرضها الوجود الاستعماري الاستيطاني الإحلالي، بأنها “حالة تحرر وطني”. ويأتي هذا الاستنتاج كأنه رد على جميع النقاشات والمحاججات والأطروحات والتنظيرات التي بشَّرت عند اتفاق “أوسلو” بأن “مرحلة التحرر الوطني” قد انتهت وطُويت صفحتها، وأننا بصدد “مرحلة البناء الوطني”! في تلك الآونة، أصبح لدينا مؤسسات من نوع “جمعية المقاتلين القدامى” وشرع البعض يحدّثك عن تجاربه القديمة في العمل السرّي، كأنها صفحة انطوت وآن أوان البوح بأسرارها! وانتصب هناك مَن نعى على “التنظيمات” التي كانت مشتغلة بـ “التحرير” تقصيرها الفادح في قضايا المجتمع والبناء المجتمعي، بينما ذهب آخرون إلى تعريف مزدوج للمرحلة بأنها “مرحلة تحرر وبناء وطني” في الآن معاً، وأخذوا يحدثوننا عن نظريات في التنمية المستدامة أو نصف المستدامة، بعد أن طُوي الحديث القديم عن اقتصاد الصمود!
لكن حتى هؤلاء الذين أوصلهم استنتاجهم المنطقي إلى إعادة الاعتبار، واعتماد أننا في “مرحلة تحرر وطني”، لم يصل بهم الأمر إلى الذهاب باستنتاجهم إلى منتهاه الطبيعي، وهو الخلوص إلى الدعوة إلى “تحرير فلسطين”، ولا سيما أن العديد من أصحاب هذه المراجعات مَن كان أسقط من حسابه هذا الخيار أو الهدف في العقود الماضية في إثر الوقوع تحت تأثير “التفكير الواقعي” الذي أنضجته الهزائم العسكرية، أو ربما تحت تأثير “القناعات الأيديولوجية” لدى البعض الآخر التي كانت نظّرت للتعايش والتصالح والسلام.
لقد كان “تحرير فلسطين” ولا شيء غيره، هو “الدين السياسي” الذي اعتنقه الفلسطينيون بعد سقوط البلاد في سنة 1948. وكان هو أبو الأهداف الوطنية العليا التي تتفرع عنه، وتقع دونه، أي أهداف أُخرى. وعندما نشأت التنظيمات الفلسطينية منذ بواكيرها بين ظهراني الشعب الفلسطيني في أواخر خمسينيات القرن الماضي، حملت أسماؤها وبرامجها وأدبياتها هدف “التحرير”، ولا شيء غيره. فكان هناك جبهة “تحرير” فلسطين، كما أن حركة “فتح” لم تكن غير حركة “التحرر” الوطني، وعندما تأسست المنظمة لم تكن سوى منظمة “التحرير”، ولاحقاً ستأتي الجبهات: الشعبية، والديمقراطية، والعربية، والفلسطينية، والقيادة العامة، وليس لها من مهمة إلّا “تحرير” فلسطين!
وعندما صاغ الفلسطينيون مواثيقهم وعهودهم الغليظة التي أقسموا عليها، والتي طالما وُصفت في حينه بأنها “إنجيل الثورة”، فإنها لم تكن سوى مواثيق تحرير، ولا شيء غيره! فـ “الميثاق القومي” الذي صيغ في أيام أحمد الشقيري، وردت فيه لفظة “تحرير” من دون كلمات: حرّ وحرية وأحرار، 22 مرة في 29 مادة. أمّا في “الميثاق الوطني” الذي جاء كتنقيح على سابقه “القومي”، وتطوير له، فوردت فيه هذه اللفظة 34 مرة في مواده الـ 34! ومن اللافت أنه لم يرد في الميثاقَين أي ذكر أو حتى مجرد إشارة إلى موضوع “الدولة” أو “الدولة الفلسطينية” كهدف من الأهداف التي يسعى الفلسطينيون لتحقيقها! وإنما كان هناك مواد فيهما ترشد وبصورة واعية إلى أنه لا توجد مهمة تفوق مهمة التحرير، حتى لو كان ذلك كياناً أو دولة!
لقد مرّت عملية استبدال هدف “تحرير فلسطين” المقدس (مثلما ورد النص على قداسته حرفياً في المادة 13 من الميثاق القومي، والمادة 15 من الميثاق الوطني) بأهداف ثانوية أُخرى “أقل قداسة”، الأمر الذي تدخّل في إمكان التفاوض بشأنها، بعملية “تعقيل” الفلسطينيين وترويضهم، والتي كانت تعتمد بالدرجة الأولى على ضربهم إلى الحدّ الذي يجعلهم يتعلمون فيه “الدرس” جيداً، لينحوا ويجنحوا في اتجاه “الواقعية”، ولا بأس في أن تُسمّى تلك العملية بأبدع ما يمكن أن يرشد إليه الخيال الثوري، وهو “واقعية ثورية”!
إن الخروج المأسوي من الأردن في إثر أحداث أيلول/سبتمبر الأسود – 1970وتموز/يوليو 1971، في اعتقادنا، كان هو أبو “التفكير الواقعي”، لأن البعض استخلص حينها أننا من الضعف بمكان لم نتمكن فيه من تحقيق انتصار أو ثبات في مواجهة حرس البادية الأردنية، فما البال بمقارعة القلعة النووية الصهيونية؟ وكانت مشاريع التسوية والحلول السياسية آنذاك قد ازدهرت بعد هزيمة 1967، وتغيرت الأولويات من استعادة “الوطن السليب” إلى “إزالة آثار العدوان”، واستندت تلك المساعي إلى قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 الذي اعتُمد في تشرين الثاني/نوفمبر 1967، واعتُبر عمود التسوية وركنها الركين (لم يعد أحد يذكره هذه الأيام، بعد أن كانت نشرات الأخبار تذكره عشرات المرات في اليوم الواحد!). وأخذت قوى عالمية وإقليمية تلعب دوراً في “التعقيل” والتنضيج، وكان من جملة ذلك التلويح للفلسطينيين بإغواءات وإغراءات “واقعية” كان التكيّف والتجاوب معها تجري ترجمتهما في قرارات المجالس الوطنية التي لم تكن تقرّ أي سياسات جديدة إلّا بعد نقاشات ومساجلات مطوّلة. وقد فهمنا لاحقاً أن الخلاف لم يكن أحياناً في جوهر الموقف، وإنما في صوغه وتخريجه والتعبير اللغوي عنه، فمثلاً بحسب بنود برنامج النقاط العشر، وبعد ضمان الموافقة على قيام السلطة الفلسطينية (مثلما ورد في النقطة الثانية) لم يكن هناك بأس في أن يضاف إليها نعت “سلطة مقاتلة”. ولا بأس أيضاً، في أن تُعلَن منظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً و”وحيداً” في قمة الرباط في سنة 1974.
وفي عملية العبث هذه التي جرى فيها تغيير الأهداف العليا واستبدالها، طُرحت ثلاثة أهداف وطنية بديلة، ليُستعاض بها عن هدف تحرير فلسطين الجامع، وهي مثلما أُعلنت في سنة 1974 (سنة تغيير وجهة الرأس السياسي الفلسطيني): حقّ العودة؛ وحقّ إقامة دولة؛ وحقّ تقرير المصير. وغدا “خطاب الحقوق” هذا خاضعاً لمنطق الحقوق التي تسمح فيها قوانين الأمم المتحدة الجائرة بحقّ فلسطين وقضيتها.
والمفارقة هنا، أن “تحرير فلسطين” عندما يتم إنجازه الفعلي كهدف، فإن هذه “الحقوق الثلاثة” وغيرها ستصبح تحصيل حاصل! غير أن طرحها منذ سنة 1974 جاء ليُستعاض به عن هدف التحرير الذي تم إقصاؤه. ثم إن أي حق من هذه الحقوق، هو من النوع القابل التفاوض عليه، وهو ما برهنته التجربة لاحقاً، بل إن هذا المنطق التنازلي، جعل حتى هذه الأهداف الثلاثة نسياً منسياً!
والمشكلة أن مسألة تذويت هذه التحولات، وإسقاط هدف التحرير في الساحة الفلسطينية، لم يقتصرا على الفاعلين السياسيين الذين يمكن أن يتخذ لهم البعض أعذاراً بحكم إكراهات السياسية، لكن الأخطر أنها طالت نخباً مفكرة ومبدعة ومثقفة ومرموقة، ممّن تقدّموا بمرافعات ومحاججات انتهت بهم إلى نفض اليد من إمكان تحرير فلسطين عسكرياً، وإلى بناء قناعات في اتجاه التعايش والأنسنة.
والمشكلة أيضاً، أننا لو قبلنا بذلك، فهذا يعني تخليد عجزنا ليكون عابراً للأجيال؛ هذه الأجيال التي لا تزال تبحث عن جواب لسؤال التحدي الذي مثّله ضياع فلسطين في سنة 1948 (وهذا التحدي، في الحقيقة، لا يتعلق بالفلسطينيين وحدهم مثلما قد يحلو للبعض تصويره، بل هو من النوع العلائقي الذي أصابت حُمّاه عواصم العرب والمسلمين: القاهرة وبغداد وعمّان ودمشق وبيروت والرباط والرياض وطهران وصنعاء والخرطوم، وهو من هذا النوع الذي يهمّ العرب والمسلمين بالمقدار الذي يهمّ الفلسطينيين أنفسهم). وكان خطأ العقل السياسي الفلسطيني الذي نحا في اتجاه “الواقعية” التي هي أشبه بـ “الوقوعية”، أنه يجب تجنُّب طرح الأسئلة التي توصل إلى الخلاصات والأجوبة الصحيحة. فإذا كان الخروج من الأردن جعلنا ندرك حدود قوتنا، أو لنقل حجم ضعفنا، فإن السؤال الواقعي الصحيح كان يجب أن يكون: ما هو دواء الضعيف؟
الجواب باختصار تبسيطي هو أن يصبح قوياً! وكان السؤال الأكثر جوهرية هو: كيف نستطيع أن نحقق القوة المنشودة في ظل معطيات الواقع الراهن في القرنين العشرين والحادي والعشرين، وليس الإمعان في والعمل على تكريس ضعفنا وتأبيده، مثلما انتهت إليه حال منطق “الواقعية السياسية” التي انطلقت بعد الخروج من الأردن، وفي اتجاه واحد ووحيد، والذي كان أحد آخر تعبيراته المدوية والمثيرة، أو رئيس الفلسطينيين الواقعي، يقف وبشكل منهجي حائراً وفاقداً دليله أمام ممثلي الأمم المتحدة السنوي معلناً بعبارات مليئة بالتيه والضياع والضعف وهو يقول: “لمَن نشكو.. إلى أين نذهب.. رضينا بالبَيْن والبين ما رضي فينا..”، ثم يطلق مناشدته: “احمونا.. فحتى الحيوانات هناك مَن يحميها..!”
الحقيقة أن السياسة لدينا مورست بالمقلوب، فالعلوم السياسية تخبرنا أن القوة (Power) المادية العارية والمباشرة هي عمود من أعمدة “المدرسة الواقعية”، وليس الإمعان في الضعف وتكريسه. فحتى “لاعنفية غاندي” كانت تبني قوة من نوع انطوى على الانبعاث والتحرر الذاتي، ذلك بأن الواقع الواجب تغييره يحتاج إلى أدوات قوة لتغييره، وليس إلى مطاوعته والخضوع له!
المشكلة أن عقلية الضعف والوهن هذه، التي طالما حدثنا عنها الراحل محمد حسنين هيكل، والتي كانت تأكل روح وجسد كيانيتنا السياسية، بات لديها أكثر من مجرد انبهار بقوة وعقلية وعلوم الأعداء و”الخواجات”، فكثيراً ما وعظتنا بأننا أقل شأناً من مقاتلة “إسرائيل”… والمسألة لم تعد لدى أصحابها تقف عند هذا الحدّ، بل إن هناك بعض العرب والفلسطينيين مَن أصبح لديه مانع في تحرير فلسطين! ومستعد أيضاً للدخول في خطط وسياسات منهجية من أجل تقويض ذلك ومنعه، وهذا مستوى غريب بلغة هؤلاء الواقعيين الذين كان لديهم قلّة ذاتٍ حيثية شحيحة واستلاب أيديولوجي وسياسي واعتراف بـ “إسرائيل” منذ يومها الأول، ولم يؤمنوا بتحرير فلسطين ولا بالكفاح المسلح من أجله، لكنهم “لم يمانعوا” على الأقل إذا ما فعل الآخرون ذلك. لكن بعض أولئك الواقعيين جداً، صار اليوم يعترض ولديه مانع، نظري وعملي، ويعتبر موقفه هذا، موقف “إجماع وطني” بل بات يُسقط الآخرين (وهم كثر جداً) من إجماعه هذا باعتبارهم أصحاب “أجندة حزبية” ضيقة. وهكذا، يصبح التمسك بـ “تحرير فلسطين” الذي كان ذات يوم “أبو الأهداف الوطنية”، مجرد طرح حزبي عصبوي نزق وضيّق، يوصَم أصحابه بالشطط والشقاء، وفي أحسن الأحوال يوصفون بالحالمين غير الواقعيين وغير العقلانيين!
هناك دعوات ملحّة منذ أعوام طويلة إلى إجراء مراجعة شاملة ومناقشة ما آلت إليه الحال، وذلك بعد الكوارث والخراب الذي ألحقه اتفاق أوسلو بالشعب وبالقضية. فالكلام التوفيقي الملتفّ على مواجهة الحقيقة لم يعد مجدياً، كما أن من دون مواجهة الحقائق الصلبة، على مرارتها وقسوتها، لن يكون هناك فائدة تُرجى من أي نقاش أو حوار.
ومن أجل المساهمة في تحرير النقاش وفي إرساء بعض الاستخلاصات التي يمكن البناء عليها، فإننا هنا نسجل وندعو إلى ما يلي:
1 – الاعتراف بالفشل
إذا كان هناك إجماع على شيء في الساحة الفلسطينية خلال الأعوام الأخيرة، فإنه على أن مسار “أوسلو” و”حلّ الدولتين” فشلا فشلاً ذريعاً. ولم تقل ذلك إعلانات ولا تصريحات ولا تقييمات رافضي اتفاق “أوسلو” ومعارضيه فقط، بل قالته أيضاً إعلانات وتصريحات وخلاصات ومرارات “الأوسلويين” أنفسهم، ومنها مجالس رام الله (وطنية؛ مركزية؛ ثورية) التي أعلنت انتهاء صلاحية هذا الاتفاق، وإن كان في واقع الأمر، على غير رغبة منها، إلّا إنها جاءت بحكم ضرورة مواجهة اللحظة ووطأتها (وخصوصاً أن إسقاط “أوسلو” تمّ “إسرائيلياً” على يد قوى وأحزاب وحكومات جاهرت بنبذه واعتمدت برامج وسياسات طوت صفحته منذ أعوام طويلة، حتى إن موقّعي “أوسلو” “الإسرائيليين” أنفسهم تخلّوا عنه وغادروه أيضاً!).
وإذا كان الاعتراف بالمشكلة هو نصف حلّها، مثلما يقول علم النفس، فإن الشجاعة والمسؤولية تقتضيان الاعتراف العلني بالخطأ الذي ارتُكب عند توقيع اتفاق “أوسلو”، إن لم يكن ذلك خطيئة كما يقول كثيرون. وكان الراحل جورج حبش دعا بنزاهته المعهودة إلى أنه: “إذا كان الجيل الذي أمثّله قد فشل في تحقيق شعاراته العادلة، فعليه، على الأقل، أن يسجّل الدروس والأسباب التي أدت إلى ذلك الفشل حتى يستفيد الجيل القادم، وكي يتجنّب هذه الأخطاء.” وإذا كان ثمة دروس وعِبَر مستقاة من هذه المسيرة الفاشلة، فإننا نوجز بعضها فيما يلي:
أ – اتفاق “أوسلو” قطع الطريق على انتفاضة متدحرجة ومتصاعدة وواعدة
يتساءل المرء بعد هذا الحصاد المرّ: هل في إمكان التحليل الأكاديمي الهادئ أن يقرر اليوم أن الاستثمار السياسي لانتفاضة 1987، والذي رأى فيه البعض أمراً أبدع ممّا كان، كان هو الاستثمار الأسوأ والأكثر خطأ؟ الغريب أن البحث العلمي الفلسطيني، ولا أقول النقاشات والمساجلات المسيّسة، تجنَّب، كي لا نقول جَبُن عن طرح الأسئلة الصحيحة التي ينبغي لنا طرحها اليوم، ونحن نجري مراجعاتنا بعد هذا الخراب كله، وهي التالية:
ماذا لو لم يكن هناك اتفاق “أوسلو” (أسوة بالسوريين واللبنانيين الذين لم يعقدوا اتفاقيات سلام حتى الآن)؟
ماذا لو أخذت ظاهرة يحيى عياش (الظاهرة الاستشهادية)، علاوة على ظواهر الانتفاضة الأُخرى التي شرعت تتعاظم كخطف الجنود والاشتباك الجريء من النقطة صفر الذي ابتدعه عماد عقل وخلاياه.. وسجّل صعود تلك الفاعليات الأمر الأهم في سنوات “أوسلو” الأولى نفسها (- 1993 1996)، ماذا لو أخذت تلك الظواهر والتطورات كامل مَدَياتها وتجلياتها الانتفاضية؟
كيف كانت ستكون النتائج وحصاد ذلك الفعل المقاوم الواثب والمتعاظم على صعيد الاستقلال السياسي والتحرر الوطني؟
ألم يكن الاحتلال “الإسرائيلي” بصدد الخروج من قطاع غزة وإخلائه في سنة 1992، ومن دون قيد أو شرط، مثلما ورد في وثائق تلك المرحلة وكُتب المذكرات، ولم يكن اتفاق “أوسلو” غير مؤخِّر لهذا الخروج، ومغرياً ومريحاً للوجود الاحتلالي اللاحق في قطاع غزة، حتى جاءت انتفاضة ثانية لديها أدوات عنف أشد وأعتى أجبرت الاحتلال على الخروج في سنة 2005 بلا قيد أو شرط؟
ألم يتساءل كثيرون: هل كان حل أزمة القيادة الفلسطينية مقدَّماً على التضحية بالقضية الفلسطينية إلى هذا الحدّ؟
أليست مرحلة “إعادة إنتاج أوسلو” القائمة حالياً في الضفة الغربية منذ سنة 2007 أسوأ حالاً من “أوسلو” ذاتها، سواء تجسّد ذلك في الممارسة والانتحار الذاتي بنزع الشرعية الكاملة عن المقاومة ثم ضربها وملاحقتها وتعطيلها، أو في انعدام حتى الأفق السياسي، أو الوعود ذات العلاقة به؟
كيف للأكاديميا أن تصف هذه الحالة من العجز المكتسب وقلة الحيلة وانعدام البدائل؟
ب – لا سلام مع الصهيونية
مع أن هذه المقولة كانت ذات يوم إحدى مسلّمات الإجماع السياسي العربي والفلسطيني (في قمة الخرطوم وبعدها)، فإن التجربة المريرة في محاولة صنع سلام مع الصهيونية، برهنت، لمَن أراد أن يجرب ذلك، وبما لا نحتاج إلى إيراده من أدلة ناطقة وصريحة، بأننا مع عدو بالغ العنصرية لا يعبأ بنا ولا بحقوقنا ولا بقضايانا، إلّا بالمقدار الذي يتيح له سرقة أرضنا واستباحتها، فهو لا يطمح إلى تهويدنا ولا إلى التبشير بتحضيرنا ورقيّنا، وإنما يسعى لتخريبنا وإفسادنا وإفراغنا. ومن وجهة نظر الداعين إلى تحرير فلسطين وعدم مسالمة المحتل، فليطمئنوا، ويا للسخرية، إلى أننا حظينا بعدو تبلغ عنصريته الجامحة العمياء حدَّ لفظنا ونبذنا حتى لو قرر البعض منا العمل عنده كحطّاب وسقّاء، ذلك بأنه أكد بجميع الصيغ التي يمكن أن يستوعبها عاقل شحيح الذكاء، أنه من النوع غير القابل لا للمسالمة ولا للمهادنة!
ج – اليأس وفقدان أي ثقة بالتفاوض والمفاوضات
بعيداً عن خيبات الأمل التي سجّلها كثير من الأكاديميين المختصين والنقّاد والمراقبين بشأن الأداء التفاوضي الفلسطيني البائس، أو الأداء “الإسرائيلي” المتنمر، فإن الذين كانوا يُلحّون في الوسط القيادي الفلسطيني قبل عقود على ضرورة “التفاوض المباشر”، وسعوا له بجميع السبل، هؤلاء بالتحديد غسلوا أيديهم وتخلّوا عن مذهبهم التفاوضي ذاك، ولم يعودوا يثقون بجدواه، مع أنهم لم يقطعوا الأمل بمجمل التفاوض عبر وسطاء آخرين!
لكن ما الذي قالته لنا تجربة ذلك التفاوض المديد؟ في الحقيقة لم يكن هذا التفاوض سوى ممارسة للعبث واستنزاف لأركان ومقوّمات ودعائم قضيتنا الوطنية وتقويض روحها كقضية حقّة وعادلة. ولو أننا جمعنا أكداس أوراق ووثائق تلك المفاوضات والاتفاقيات التي وُقّعت وتساءلنا: ماذا كانت النتيجة والحصيلة؟ لم يكن جوابنا ليتعدّى ما قاله فاروق الشرع في مذكراته: “قبض ريح”!
والحقيقة أن حكوماتهم المتعاقبة منذ رابين وبيرس وباراك، انتهاء بشارون وأولمرت ونتنياهو ولبيد، ومثلما تُظهر الوثائق والشهادات، ثم الإجراءات والسياسات، لم يكن في نيّتها منحنا “دولة”، وأقصى ما تم طرحه هو حُكْم ذاتي ناقص! وكان الدرس البليغ في عدم جدوى التفاوض مع هذا النوع من الأعداء، أن هذا العدو ذاته انسحب في فترة التفاوض المديدة نفسها مرتين من دون قيد أو شرط: في أيار/مايو 2000 من الجنوب اللبناني، وفي سنة 2005 من قطاع غزة وشمال الضفة الغربية، وذلك من دون تفاوض وبشروط إذلالية، بل بمعادلة فرضتها مقاومة متراكمة وعنيدة، على الرغم من الجحود والإنكار اللذين أظهرهما مكابرو “أوسلو” وأضرابهم اللبنانيون والعرب!
د – سؤال البديل
بعد الخروج من بيروت في سنة 1982، كانت أهم حجة يلقيها معتنقو التسوية وعقلانيوها على خصومهم، قولهم: ما البديل؟ على اعتبار أن الكفاح المسلح من الخارج وصل إلى طريق مسدود! لكن ما حجَّة هؤلاء اليوم بعد الفشل الذريع الذي آلت إليه تلك التسوية التي حلموا بها، واشتهوها، وسلكوا دربها، وأدخلوا الشعب والقضية في أتونها وأوصلونا إلى ما أوصلونا إليه من دركات وتراجع وتقهقر؟ والحقيقة أن السؤال الذي سألوه ذات يوم يرتدّ إليهم بعد هذا الحصاد المرّ: ما البديل؟ ما البديل من التسوية والتفاوض والمساومة؟ ألم يأخذ هؤلاء التسوويون فرصتهم كاملة وزيادة من الوقت والتجريب، وهل هناك متسع لعبث واستنزاف وتآكل آخر للرهان على تسوية من نوع آخر؟
لقد كان هناك شعار مبكّر للثورة المصرية تسمّت به الحركة الشعبية التي مهّدت لها، واختُزل في عبارة “كفاية”! أي يكفي الاستهتار، والاستمرار في الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتردية إلى هذا الحدّ. ولا بأس في أن نستعيد هنا هذا الشعار، إذ يكفي القضية الفلسطينية ضياعاً وتيهاً واستلاباً واغتراباً، وآن أوان رجوعها إلى بوصلتها وسكّتها وطريقتها الأولى. ولقد قرأنا آراء سديدة على صفحات هذه المجلة في الأعوام الماضية، نادى أصحابها، بعد فشل حل الدولتين ومعه مسار التسوية، بنفض اليد من إمكان مسالمة الصهيونيين، ودعوا إلى التهيؤ للدخول في مرحلة صمود طويلة الأمد.
هـ – “أوسلو” عقبة أمام مهمة التحرر الوطني
كالعادة، أخذ اليهود الصهيونيون حاجتهم الكاملة منّا من خلال اتفاق “أوسلو”، ثم ألقوه جانباً وأسقطوه من طرفهم، لأنهم لا يرون أي عائق يحول دون تماديهم في الاستيطان وما يزعمونه من “حقّ خالد” لهم في أرضنا. بل إن الأداء الفلسطيني الأوسلوي بات يغريهم بحسم صراعهم الوجودي معنا، وإعادة الاعتبار إلى أفكار ومشاريع التهجير والترانسفير كافة.
وإذا كان البعض اعتقد أن هناك مضموناً وطنياً لاتفاق “أوسلو” عند توقيعه باعتباره يَعِد بدولة فلسطينية متوقعة، فإن ذلك الرهان وصل إلى خاتمته في كامب ديفيد في تموز/يوليو 2000، وتُرجم نهائياً باغتيال الرئيس الشهيد ياسر عرفات في تشرين الثاني/نوفمبر 2004. ثم إن مرحلة “ما بعد أوسلو” ضاقت هوامشها الوطنية إلى حدّ كبير، وباتت في الحقيقة تعكس مكوّناً من مكونات إدامة الاحتلال، وأداة من أدوات سيطرته وهيمنته؛ والتعبير الأوسلوي بليغ في وصف هذه الحالة: “سلطة بلا سلطة، واحتلال بلا كلفة”! وإذا كان الأمر كذلك، فما هي الحاجة إلى بقاء “أوسلو” والتمسك به؟ ونقصد تلك العلاقة العضوية أمنياً وسياسياً واقتصادياً بالاحتلال!
نعتقد أن إحدى أوّليات التحرر من الاحتلال، هي التحرر والتخلص من تلك العلاقات البغيضة والثقيلة، وإن بقاءها مثلما هي عليه، وكما مورست في التجربة حتى الآن، هو من أشدّ الأعباء والأوزار والأثقال والموانع التي تقف في وجه أي عملية تحرر وطني حقيقي.
و – تصحيح خطأ “أوسلو”: ليس أقل من سحب التنازلات كافة
بعض الأكاديميين والمشتغلين بالسياسة أطلق على “أوسلو” (1993) مصطلح “الهَلْكة” تناغماً سجعياً ودلالياً مع التعبيرَين السابقين لكارثتَي “النكبة” (1948) و”النكسة” (1967). لكن إذا ما انتهى التقييم الوطني الأخير إلى أن “أوسلو” كان خطأ جسيماً ارتُكب في حقّ الشعب وحقّ القضية، فالسؤال هنا: هل يمكن تصحيح ذلك الخطأ؟ وإذا كان اتفاق “أوسلو” خطأ، فما هو الصواب؟ وماذا بالنسبة إلى مَن ارتكب هذا الخطأ؟
من المفيد القول، ولو من الناحية القانونية، فضلاً عن الناحية السياسية، إن “أوسلو” كان “اتفاق إعلان مبادئ”، ولم يكن “معاهدة سلام”. أي أن المجال متاح لسحب جميع التنازلات الفادحة التي جرى تقديمها حتى الآن، وخصوصاً “أبو التنازلات”: الاعتراف الفلسطيني بشرعية الكيان الصهيوني الذي أُعلن في 9 أيلول/سبتمبر 1993، علاوة على جميع صيغ الاعتراف التي وردت في قرارات المجالس الوطنية السابقة، وتلك الواردة في الاتفاقيات والبروتوكولات الموقَّعة في مختلف المراحل والمناسبات. لكن السؤال هو: مَن سيقوم بهذه المهمة الوطنية الجليلة؟
عادة، يقوم الزعماء السياسيون النزيهون الذين يحترمون أنفسهم ومواقفهم وبرامجهم وكلمتهم، عندما يفشلون، أو لا يتمكنون من تطبيق برامجهم وسياساتهم، بتقديم استقالتهم بصورة جديّة ونهائية، وذلك بعكس الطريقة العربية التي لا مثيل لها في العالم، إذ إن تقديم الاستقالة عندنا، يُعتبر أكبر علامة على تجديد الثقة والاستمرار والبقاء، بينما يغدو الفشل موضوعاً غير ذي صلة عند وضع الثقة بالزعيم، أو بالحزب “القبيلة السياسية”، في الميزان! وكان متوقعاً من الذين جلبوا الفشل إلى الساحة الفلسطينية، وأعادوا اجتراره مراراً وتكراراً، أن يعتذروا عن هذا الفشل كله، وعن هذه الخيبة، وذلك حتى قبل تقديم استقالتهم وخروجهم من المشهد.
وإذا كانت شجاعة الأوسلويين، أصحاب “سلام الشجعان”، على غرار الخط السياسي الذي اعتنقوه، لا تسير إلّا في اتجاه واحد ووحيد، وهي شجاعة وجسارة تقديم التنازلات الباهظة، وإذا كانت المكابرة الغريزية تحول دون الجرأة على الإقدام على الاعتراف بالفشل والخطأ، فإن الأمر في اعتقادنا هو في يد الشعب الفلسطيني وقواه الحية اللذين بالغا في التأدب والاحتشام في التعامل مع هذه الحالة الداخلية المربكة، وذلك على غير طبعهما وعادتهما في أن يمتلكا شجاعة المبادرة وزمامها. فالشعب الفلسطيني يفاجئ الجميع دائماً بحيويته ونضجه وقدرته على تخطي الحواجز والعقبات، والغريب أن اتفاق “أوسلو” لم يجرِ إسقاطه على الرغم من إلحاحية الوعي في مواقع التواصل الاجتماعي بضرورة مغادرته، وهو أمر متاح، إذ يمكن أن يتم جمع تواقيع ملايين الفلسطينيين واللاجئين، ليكون هناك إسقاط شعبي له! والأكثر غرابة هو أن القوى السياسية الرافضة لـ “أوسلو”، وعلى الرغم من فوزها الكبير في انتخابات 2006، لم تقدم لا على إصدار قرارات أو قوانين تُسقط فيها “أوسلو” وجميع ملحقاته وتوابعه، ولا على تنظيم حملة شعبية في جميع أماكن الوجود الفلسطيني لإسقاط الاتفاق الذي نرى فيه خطوة أساسية في اتجاه بناء الإجماع الوطني الجديد الذي ننادي به.
2 – العودة إلى الجذور والينابيع
مع تكاثر الحديث عن مبادرات ومشاريع التسوية في الساحة الفلسطينية، بعد الخروج من بيروت في سنة 1982، كثر في الأدبيات الفلسطينية مذّاك، التذكير، في المقابل أيضاً، بالثوابت الوطنية الفلسطينية والوقوف عندها وعدم تجاوزها. وكان المقصود بالثوابت تلك المستحدثة بعد سنة 1974، وهي: حق العودة وإقامة الدولة وتقرير المصير، علاوة على ثابت وحدانية التمثيل الفلسطيني وحصره بمنظمة التحرير الفلسطينية. أمّا أبو الثوابت “تحرير فلسطين”، فتأكد طيّ صفحته عملياً (بعد سنة 1982) بعد أن طُوي نظرياً في برنامج النقاط العشر (البرنامج المرحلي) الذي صدقت فيه النبوءة النافذة للمفكر التطهُّري حنا ميخائيل “أبو عمر” (الذي كان أحد أقطاب التيار الديمقراطي في حركة “فتح” قبل رحيله المبكر في سنة 1976)، بأن المقصود بالمرحلية لم يكن تحرير فلسطين على مراحل، وإنما الاعتراف بـ “إسرائيل” على مراحل! وهذا ما أثبتته التجربة لاحقاً!
وأصبح يشار إلى تنازلات (ثوابت) سنة 1974، على أنها مطالب الحدّ الأدنى! والحقيقة أن هذا الحدّ الأدنى كانت قد رسمته قرارات مجلس الأمن الدولي الجائرة، ولم تكن من بنات أفكار الفلسطينيين وقرارات مجالسهم الوطنية. بل إن المتتبّع لمسار التغيير في الفكر السياسي الفلسطيني، سيكتشف أنه لم يكن في الواقع غير محاولة اختراع المصطلحات والمسمّيات والمقولات من أجل التكيّف والتماثل مع ما يسمّى “الشرعية الدولية”؛ هذه الشرعية التي كان أحد شروط اعتناقها ليس فقط خلع الشرعية النضالية التحررية السابقة، بل أن يحلّ محلّها شرعية استعمار فلسطين والاعتراف بـ “إسرائيل” كـ “حقيقة سياسية مطلقة”! وعدم الإتيان بأي شيء يُخلّ بذلك! وبالتالي، فإن هذه الثوابت الفلسطينية المستحدثة إنما تنطلق من ثابت ثوابت “الشرعية الدولية” الظالمة، وهو ما يجعل تلك الثوابت من وجهة نظر وطنية، على الرغم من إغراء ألفاظها ووزنها القانوني والسياسي، يعتريها الفساد والخطل والاعوجاج.
اليوم، وبعد هذا المسار من الفشل الذريع الذي اهتزت فيه تلك “الثوابت” كلها، المستعارة والمستعاضة عن ذلك الهدف الفطري والأصيل، “هدف تحرير فلسطين”، هل ما زال هنالك متّسع للدخول في مغامرات وتجارب ودوّامات جديدة في هذا الاتجاه التسووي؟ ولا سيما أن عالم اليوم هو غير عالم الأمس قبل خمسين عاماً، عندما صيغت التنازلات الفلسطينية، كما أن موازين القوى الدولية والإقليمية والمحلية تشهد تغيراً جوهرياً فارقاً، وتَمَوضُعَنا كشعب وكقضية في سنة 2023 هو غيره في سنة 1974، وغيره في سنة 1948.
لقد كانت إحدى مقولات التسوويين الشهيرة، بعد إقرارهم بالعجز عن “تحرير فلسطين”، هو في إحالتهم أمر تحريرها من عدمه إلى مسؤولية الأجيال المقبلة، الأمر الذي ينطوي على أكثر من مجرد مصادرة دور الأجيال الراهنة، ويتعدّاه إلى توريث الأجيال المقبلة ليس فقط العجز عن التحرير، بل حتى العجز أيضاً عن الاحتفاظ به كهدف قائم وماثل وممكن التحقق من دون إقصائه وطيّ صفحته.
والحقيقة أن الأجيال الجديدة تفاجئنا دائماً بأنها لم تغادر بفطرتها السليمة ينابيعها وجذورها، ولا تحتاج في ذلك إلى كثير من التعبئة أو التنظير أو الفذلكة الزائدة، بل ربما تجهل بصورة مؤثرة، تلافيف التحولات “الواقعية”، والمسالك التي سلكها العاجزون. غير أن الوعي الفطري البكر لدى تلك الأجيال الجديدة يتجسد أمامها في جميع مظاهر الاحتلال التي تستفزّ فيها مكامن طاقتها ودافعيتها، ولا بأس في أن تسعى القوى الحية والمفكرة والمثقفة والمسيّسة، وكل مَن يعنيه الشأن العام الفلسطيني، وهما في طريقهما للعودة إلى الجذور والينابيع، لأن يكنسا ويعزلا في طريقهما هذا الركام كافة!
3 – الدعوة إلى إجماع فلسطيني جديد يستعيد الإجماع الأصلي وهو “تحرير فلسطين”
لقد مرّ التحول من برنامج “التحرير” الكامل إلى برنامج “دولة 67” عبر سلسلة طويلة من التعقيل والتجليس والترويض، واشتُهرت مصطلحات رمادية في تأطير تلك الحالة كـ”التكتيك”، أو القول الملتبس “لعم”، وغير ذلك من التعبيرات الخفرة للالتفاف على الإجماع الوطني “الفطري” والطبيعي، والذي لم يكن غير هدف التحرير. وقد أخذ التكتيكيون فرصتهم كاملة وزيادة، منذ سنة 1988 عندما زعموا أنهم شيّدوا “إجماعهم” آنذاك بعد أن أسقطوا وغيّبوا في واقع الأمر قطاعات واسعة من إجماعنا السياسي والنضالي.
وللسخرية، فإن هذا “الإجماع” الثاني المستجَد، كان وهو يبتعد عن الإجماع الأول وعن محرّماته، يحاول ما أمكن أن يواري إعلاناته ومواقفه، غير أنه لم يلبث بعد الدخول في “أوسلو” حتى أتى بالإعلانات السافرة التي تُسقط الإجماع الأول ومواثيقه وعهوده ووعوده، لكن لم يصل حال استسهال حذف ومحو ما كان ذات يوم يُدعى “إنجيل الثورة” إلّا بعد مسار طويل من التعقيل والترشيد والترويض، حتى مرَّ بأقل ردة فعل ممكنة.
أمّا اليوم، وبعد مآلات الحصاد النكد لذلك “الإجماع الثاني”، فالفلسطينيون مدعوون إلى إعادة إنشاء إجماع جديد. ولدى حديثنا عن الفلسطينيين و”الشعب الفلسطيني”، فإننا وجدنا بعد “أوسلو”، وبعد انهيار منظمة التحرير الفلسطينية (التي بدت أنها أنهت دورها التاريخي مع توقيعها اتفاق “أوسلو”)، والتي كانت توصف ذات يوم وبحقّ بأنها “وطن الفلسطينيين المعنوي”، انفراطاً لعقد “الهوية الفلسطينية” الجامعة التي جاهدت منظمة التحرير الفلسطينية لتحقيقه وتجسيده بالدرجة الأولى. بل غدونا بعد أوسلو أمام “هويات” فلسطينية، وكانت ساحة فلسطينيي 1948، بحسب دارسيها ومراقبيها، أنشط ساحة بين ساحات الوجود الفلسطيني التي شهدت النقاش الأهم بعد “أوسلو”، ليس فقط بشأن قضايا الهوية، بل أيضاً عن المستقبل والدولة والمصير. لكن غلب على الوجود الفلسطيني بأجمعه، التيه والضياع وفقدان الدليل، ولا بأس في أن نسجّل هنا، أننا كنا في أيام ذروة الطوفان الأوسلوي، والجميع يومها غرقى تحت مائه، وحيدين، أو شبه وحيدين، ونحن نقارع الشر الصهيوني الجاثم فوق ترابنا، وكنا نقول، ورأسنا فوق الماء ونبصر بشكل جيد، أننا غير متأكدين من شيء في ذلك التيه، سوى من مقارعة ذلك الشر، وأن الميدان والمواجهة فقط هما اللذان يمنحاننا معنى الحياة الحرة الكريمة، فالاغتراب بات خانقاً، ولم تعد الأشياء ولا الكلمات ولا المعاني تشبه ذاتها (لقد صدقت نبوءة وتوقعات الأستاذ غسان سلامة المتشائمة، التي كان صاغها في خماسية مؤثرة من الأدب السياسي بشأن المخاطر المستقبلية المحدقة بالمنطقة في أحد أعداد مجلة “المستقبل العربي” في صيف أوسلو في سنة 1993، عندما توقّع دخولنا في عهود من: الإلحاق والاختراق والانسحاق والاحتراق والاختناق!). آنذاك رفضنا أن نكون بين جموع الغرقى، ولم يكن لأمثالنا مكان لا في الشوارع ولا في الأسواق والمنتديات الصفراء القاحلة والمتصحرة، وإنما كنا نتحرك كمَن يمشي في مقلى… فأماكن وجودنا ومناوبتنا الطبيعية كانت ولا تزال، إمّا تحت التراب الطهور، وإمّا في عرين اعتقال، وإمّا في ميدان قتال. وكنا نردد يومها: لِتَمُت الأحلام كلها إن مات حلمنا بتحرير فلسطين!
في الأعوام الأخيرة، أعيد الاعتبار عند الحديث عن “الشعب الفلسطيني” إلى جميع مكونات هذا الشعب، وليس اختصاره في فلسطينيي الأراضي المحتلة، مثلما كان يوحي به الخطاب السياسي والإعلامي الطاغي بعد “أوسلو”. وبذا، فإن الفلسطينيين في خطابنا السياسي والإعلامي الراهن هم الأربعة عشر مليوناً الذي بلغه تعدادهم حالياً (بحسب ما يحاول مركز الإحصاء الفلسطيني أيضاً إثباته وإقراره والتذكير به).
والسؤال الأكثر جدارة الذي علينا مواجهته هنا (وخصوصاً بعد فشل “أوسلو” و”حلّ الدولتين” الذي كان سيعالج، في أحسن حالاته ورديّةً، جزءاً من الشعب الفلسطيني، على جزء من الأرض الفلسطينية، وترك باقي الفلسطينيين خارجه، وكان هذا الأمر هو الانتقاد الأشد الذي وُجِّه إلى “أوسلو”) هو: كيف يمكننا صوغ برنامج سياسي وتحرري يعبّر عن آمال وطموحات وتطلعات وغايات وأهداف أربعة عشر مليوناً من الفلسطينيين بالدرجة نفسها؟
بكل وضوح، ليس هناك برنامج غير “تحرير فلسطين” قادر على الإجابة عن هذا السؤال الوجودي والتحرري، ويمكنه تلبية حاجات وتطلُّعات جميع ذراري الفلسطينيين. فالمسألة هنا ليست إسقاطات رغائبية أو تحليقاً غارقاً في مثالية تنشد عدلاً مطلقاً وإحقاق حقّ مستحق، كما أنها ليست تشنّجاً أيديولوجياً متخشباً.
إن إعادة الرجوع إلى “أبو الأهداف الوطنية” وأُسّها وعمودها الأوّلي، تأتي في الحقيقة بعد مسار من التجريب مر على ما يمكن تخيّله من خيارات تركته وراءها، وقد استنفدت هذه الخيارات أغراضها، ولم ينلنا منها إلّا إضاعة وقت، وتأخير أوانٍ، وافتئات على أجيال، ووصول الذين اهتز لديهم هدف تحرير فلسطين الذي رأوه بعيداً وعصياً على التحقيق، إلى نفض أيديهم من الخيارات والحلول التي انخرطوا فيها وتوهّموا أنها حبل الخلاص.
وهدف “تحرير فلسطين”، في الحقيقة، لا يتعلق من زاويتنا فقط بفشل الحلول السلمية، مع أن هذا الفشل يمنح إعادة الاعتبار إلى هذا الهدف جدارة وأحقية مضافة، ويعفينا من إيراد كثير من الحجج التي كنا نسوقها قديماً للبرهنة على أهمية بقاء “تحرير فلسطين” هدفاً معلناً، وأنه يجب ألّا تتم الإطاحة به باسم جميع الفلسطينيين عن بكرة أبيهم. وحتى لو نجحت الحلول السلمية، فإن ذلك ما كان ليمنع المنادين بتحرير فلسطين من الاستمرار في نهجهم، لأنه حقّ أصلي وفطري وطبيعي، بينما مسار الحلول هو الاستثناء، وهو الخروج عن الطبيعي، على الرغم من جميع ما قيل عن “إجماع” بشأن ذلك الاستثناء والاغتراب!
نحن اليوم مدعون ثانية إلى العودة إلى الأصل والجذر وإشهاره، حتى لو استغرقنا ذلك عشرات الأعوام (حتى لو استغرق ذلك ثلاثين أو أربعين عاماً)، فهذا أقصر الطرق، مع أن طبيعة عصرنا تتوفر فيها حركة زمن قافزة، تنطوي على سيولة في التحولات والفرص. ثم إن التحرير، وكما في كل التجارب، يعتمد على فعل الإرادة، وأجيالنا الراهنة تملك استعداداتها النضالية العالية التي تؤهّلها للمقارعة والمنازلة، مع ظرف دولي يشهد تغيرات عميقة تتيح المجال لإحداث تسجيل نقاط فارقة على طريق التحرير، إذا ما انتظم الفعل النضالي واتّسق في مسار تحرري حقيقي.
لذلك، إن العودة إلى “تحرير فلسطين” هي عودة إلى تحقيق الانسجام والتناغم والاندماج الكلي لجميع الفلسطينيين، وعودة الروح إلى الجسد بعد أن جعلنا اتفاق “أوسلو” لا نشبه أنفسنا. وربما هناك مَن سيحاجج بأنه نشأ لدينا قطاعات من الفلسطينيين لم يعد “تحرير فلسطين” يعنيها أو تتخذه هدفاً لها، وهذا متوقع، ولذلك فإن الإجماع الذي ننادي به، في واقع الأمر، لا يقتصر على أربعة عشر مليون فلسطيني حصراً، فحتى لو أجمع هؤلاء عن بكرة أبيهم، فإنه لا غنى لنا عن توسيع الإجماع ليطال محيطنا العربي والإسلامي وأقلّه الشامي، فأمر فلسطين، مثلما تؤكد جميع وثائق الفلسطينيين، هو شأن علائقي وذو صلة بمحيطه، ويَعتبر فيه الفلسطينيون أنفسهم أنهم رأس حربة وطليعة أمتهم، وإن انتظار فاقدي الاقتناع بتحرير فلسطين كي يقتنعوا، إنما هو إضاعة أُخرى لوقت آخر!