بداية هو حسم نفسه مع الشهداء، اتخذ قراره وعقد عزمه على أن يكون شهيدًا، فكتب وصية الشهيد، جاءت كلماته لتبدِّد العتمة وتنير الطريق، أراد أن يخطَّ كلمات من عالم الحق إلى عالم الباطل وسيطرة الاحتلال، أراد لكلماته أن تكون حازمة وفاصلة وحدًّا فاصلًا بين الحق الأبلج الظاهر الجليِّ وبين هذا الظلام الذي يريد أن يغرق فلسطين فيه، هذا الذي عاناه الناس كثيرًا وطويلًا، فلم يكن هناك أعظم وأروع من أن يسهم في قضِّ مضاجع الاحتلال وإرباكه من هذه التضحية الفذة لشاب أراد لنفسه أن يكون شهيدًا عند ربِّه وشهيدًا على سوء هذه المرحلة وسوء فعل الاحتلال فيها.
وكانت كلماته قليلة جدًّا ومقتضبة كثيرًا لأنه من أهل الفعل، لقد سبق فعله قوله وقدَّم بين يدي كلماته القليلة هذه دماء عزيزة غالية وأتمّ استعداده ليتلقى رصاص عدوّه بصدر رحب بعد أن يثخن فيهم الجراح، عديّ هو الذي اختار هذه الطريق، وهنا لا بدّ لنا من وقفة نحاول فيها قراءة هذه الشخصية من الداخل، ثقافته، اهتماماته، نشأته التربوية، طريقة تفكيره، ارتباطه بدينه ووطنه ومقدّساته، وكذلك حياته الاجتماعية والمؤثرات التي يتعرض لها شاب هذه الأيام السلبية منها والإيجابية، أثر النت ومواقع التواصل الاجتماعي وأثر الإعلام العادي والرقمي، أثر الأخبار القادمة من نابلس وجنين، مدى تأثره بعرين الأسود وأحداث نابلس وجنين.
إننا أمام شخصيّة فذّة ظهرت تجلياتها في ميدان الفعل ثم تجلّت بهذه المقولة العظيمة في وصيّته، كسر الراء في كلمة المطارد وهذه تدلّ على الروح العالية الساكنة في صدره، إذ هو بذلك اليد العليا وأن ما يمثّله من حق وعدل يمنحه قوة الدفع القادرة على ملاحقة من يمثّل قوّة الظلم والطغيان، لم ترهبه دولة مترسنة بالنووي وكلّ أسلحة الدمار الشامل، لم تحتلّ أيّ مساحة من عقله وقلبه بل ظلّ حرًّا عظيمًا وبقي الاحتلال حقيرا تافها لا أصل له ولا فصل، عديّ يطارد الاحتلال ويغزوه في عقر داره وقبل ذلك يكشف زيفه ويرفع الستار الأسود عن وجهه القبيح.
ثم بأدب جمّ وتواضع عظيم يضع نفسه وفعله في سياق مبهر، يقول: “أنا نقطة في بحر النضال الفلسطيني الهادر، أنا لم أحرّر فلسطين في عمليتي هذه”، إذًا هو ليس واهم ولا مغرور بما يفعل، هو لا يعتقد أن هذه الأفعال التي قام بمثلها من شأنها أن تحرّر فلسطين، بتواضع جمّ يأمل ويضمّن جملته الأخيرة رجاء وأملًا أن تحرّك الشباب نحو حمل البندقيّة وأن تعزّز هذا الخيار وتقدّمه على أيّ خيار آخر، وهذا من شأنه أن يخلخل كيان المحتلّ وأن يضع القطار على سكّته ويسلّط الاهتمام الفلسطيني على المعادلة الصحيحة وأن يسهم مساهمة فعّالة في تصويب المسار الفلسطيني الذي تراجع كثيرًا واختلّت موازينه بعد اتفاقية أوسلو، تمادى الاحتلال كثيرًا واستثمر أبشع الاستثمار في الاستيطان وتهويد القدس ومحاولة فرض وقائع جديدة، فتأتي هذه الروح العظيمة بهذا الفعل العظيم لتضع الأمور في موازينها الصحيحة.
كانت وصية عظيمة تضمنت ضخّ هذه الروح العالية والمنتصرة لتبدد روح الهزيمة والانكسار.
ونجحت في تعرية الاحتلال وانحازت لخيار البندقية كحل فريد لهذا المحتلّ.
وامتازت بالوضوح والاختصار والضرب العميق على الوتر الحسّاس.