هي ليست مأساة إغريقية أو يونانية تتحدث عن وقائع وأحداث تثير في نفس قارئها مشاعر الحزن والشفقة تجاه شخص عظيم يمر بظروف تعيسة تنتهي بحدث مأساوي، وربما لو قرأت قصة الأسير الشهيد ناصر أبو حميد من هذا الجانب لكانت قصة تصلح لأن تتفوق على كتابات إسخيلوس وسوفوكليس وغيرهم من كتاب الدراما اليونانية، ولكنها ورغم مأساويتها ينظر إليها الشعب الفلسطيني على أنها قصة بطولة وتضحية وفداء من أجل الوطن، قدم فيها الشهيد الأسير ناصر أبو حميد روحه فداءً للوطن الذي يحب.
ناصر أبو حميد شهيد من شهداء الشعب الفلسطيني، وليس بطلًا من أبطال المآسي الذين خلدتهم كتابات الأدباء اليونانيين والإغريقيين منذ آلاف السنين، ولكن ظني أن قصة الشهيد ناصر، ومع أنها لن تحظى بما حظيت به تلك المآسي الإغريقية واليونانية من اهتمام، لهي أعظم وأجل رغم أنها ستُنسى بعد حين كما نسيت قصص أبطال سبقوه ولم تعد تذكر إلا في بضع سنين في الذكرى السنوية، ثم تنسى بعد ذلك إلى الأبد.
لم نعد -نحن الشعب الفلسطيني- نستغرب مدى الانحطاط الذي وصل إليه العدو الصهيوني في حربه الهمجية العدوانية ضدنا، ولا أظن أن هناك رذيلة أو نقيصة إلا وقد ارتكبها عدونا رغم ادعائه البغيض بأن جيشه هو “الأكثر أخلاقية” في العالم، فهذا ديدن الجبناء والمنحطين أخلاقيًّا الذين يدّعون الشهامة والرجولة.
قضى ناصر أبو حميد شهيدًا وهو يقضي عقوبة بالسجن 7 مؤبدات وخمسين عامًا على خلفية مقاومة الاحتلال، وأجزم أن هذا الحكم يؤكد لكل ذي لب مدى الهزيمة النفسية التي تعتري الاحتلال ويسعى جاهدًا لإخفائها، فلا تلبث إلا أن تتبدى في مثل هذه الأحكام التي يحاول من خلالها إشباع روحه المريضة بالتشفي والانتقام.
مضى ناصر شهيدًا بعد أن قال كلمته الأخيرة: “أنا ذاهب إلى نهاية الطريق، ولكني مطمئن وواثق بأنني أولًا فلسطيني وأفتخر، تاركًا خلفي شعبًا عظيمًا لن ينسى قضيته وقضية الأسرى”.
سيبقى الشعب الفلسطيني على العهد يا ناصر، وكما أرضعتك أمك الفلسطينية الأصيلة العظيمة لبن العز والكرامة وأرضعت إخوانك الأبطال الثلاثة الذين ما زالوا في سجون الاحتلال، ستبقى الأم الفلسطينية “حارسة حياتنا وبقائنا” كما وصفها محمود درويش، ترضع الفلسطيني حب الوطن، وستبقى القضية الفلسطينية متأصلة في نفس كل طفل فلسطيني ما دامت الأم الفلسطينية تهدهد أطفالها بقصائد حب الوطن، وكم كانت “الدولة الصهيونية” بائسة وهشة عندما غنت عجوز فلسطينية عمرها أطول من عمر الاحتلال: “شدوا بعضكم يا أهل فلسطين شدوا بعضكم”.
وقد يُغيِّب الاحتلال بقوته العسكرية المدعومة أمريكيًّا أجساد الأبطال خلف القضبان، ولكن هيهات أن تسجن الروح التي تبقى محلقة في سماء الوطن تنثر حبها للأرض التي عشقها حتى الذوبان، يغيب اليوم جسد ناصر ولكن لا تغيب قضيته التي ضحى فداء لها، قضية الأسير الشهيد ناصر أبو حميد قضية العدالة الإنسانية المفقودة، بل المغيبة التي لم تفلح هيئة الأمم المتحدة التي يفترض بها أن تعبر عن الضمير الإنساني، أن تنصفها، ووقف العالم يشاهد بلامبالاة ذبح الإنسانية على بساط للإعلان العالمي لحقوق الانسان الذي صاغته دول العالم التي تسمي نفسها “المحتضرة” لغاية إعلاء شأن الإنسان وتقديس الكرامة الإنسانية، ولكن الإنسانية أصمت أذنيها عن سماع قضية ناصر، ولم تُعِرها ولو قدرًا يسيرًا من بعض الاهتمام التي تعيره لقضية مثل الهلوكوست أو اللاسامية، وكأن الإنسانية لها أوصاف وسمات غربية ليس للشرقيين فيها نصيب.
فبئست مواثيق حقوق الإنسان وإعلاناته وعهوده التي تصدح بها منصات الأمم المتحدة والمحافل الدولية والإنسانية وهي تنتهك حرمتها خلف أبواب هذه المحافل، وربما بقرارات من يصدحون بتلك المواثيق والعهود.
ستبقى الإنسانية جسدًا بلا روح وشعارًا أجوفَ فارغًا ما لم ينصف الشهيد ناصر أبو حميد، ولذلك ينبغي أن تكون قضية الشهيد ناصر أبو حميد حافزًا لكل الأحرار وكل من يؤمن بكرامة الإنسان وحريته لأن يجعلوا منها قضية عالمية تُسخَّر لها كل الإمكانيات المادية والمعنوية والفكرية لتصبح محورًا ومرتكزًا إنسانيًا حضاريًا يحول دون تكرارها حتى لا تتحول المأساة إلى مهزلة.