تعرض الشعب الفلسطيني منذ عام 1948 لأقسى هجمة على هويته ووجوده، بعد أن احتلت العصابات الصهيونية أرض فلسطين، وأقامت عليها مستعمرةً أطلق عليها اسم (إسرائيل). مارست هذه العصابة عمليات استبدال للمواطنين بالمستوطنين في ظل التهديد بالقتل للسكان الأصليين في المدن الفلسطينية مثل: الرملة، والقدس، ويافا، واللد، ودمر الاحتلال عدداً من القرى مثل أبو شوشة، وبيت نبالا، وجمزو، ودير طريف، ورحل سكان هذه الأرض الأصليين تحت تهديد السلاح إلى أرض أخرى بحثاً عن الأمان على الحياة.
في مدينة رام الله، وضمن حدود بلدية البيرة أقام سكان البلاد المحتلة عام 1948 مخيم الأمعري، وتسلمت الحكومة الأردنية التي كانت تحكم الضفة الغربية مسؤولية المخيم عام 1950.وبحلول عام 1957 استبدلت الأنروا بالخيام مساكن إسمنتية وحصلت العائلات التي لا يزيد عدد أفرادها على خمسة أشخاص على مسكن مؤلف من غرفة واحدة، وحصل من هم أكثر عدداً على مساكن من غرفتين.
وكغيره من المخيمات الفلسطينية واصل الشعب الفلسطيني في مخيم الأمعري مقاومة الاحتلال على مدار السنوات، لم تمنعه التضحيات الكبيرة من مواصلة النضال، ولم توقف نضاله اتفاقيات السلام التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية مع الاحتلال، فما زال أبناء المخيم يحتفظون بأسماء بلداتهم ومدنهم وقراهم التي احتلها الاحتلال الإسرائيلي عام 1948 دون أن يمنحوا منظمة التحرير شرعية التنازل عن حقوقهم الوطنية في أرضهم المحتلة.
أفراحٌ غير مكتملة
في صيف عام 2021 قتلت قوات خاصة إسرائيلية الشاب أحمد جميل عبدو (23 عاما) والملقب بـ “الفهد” كان يستقل سيارة للعائلة هاجمتها وحدة خاصة بمنطقة أم الشرايط المحاذية لمخيم الأمعري، وأطلقت النار عليه حتى لفظ أنفاسه، رغم أنَّه لم يكن مسلحا.كان أحمد يستعد للزفاف غير أن الشهادة منعت قرانه بالشابة براء ألبو اللذان كتبا خطوبتهما منذ سنة تقريباً ولم يبق لزفافهما سوى يوم واحد فقط.
وفي سبتمبر/ أيلول عام 2014، قتل جنود الاحتلال ابن المخيم عيسى خالد القطري 22 عاما وكان ينهي التحضيرات لزفافه بعد خطوبة دامت عامين. وفي يوم الاستشهاد كانت عروسه سماح طُملية في انتظار وصول “طقم غرفة النوم” إلى منزلها الجديد لكنها تلقت خبر استشهاد عريسها بعد إصابته بالرصاص الإسرائيلي في صدره.
وفي يونيو/حزيران 2003، خلال انتفاضة الأقصى اختطفت قوة اسرائيلية خاصة الشاب رمزي براش من حفل زفافه، ما أدى إلى انفصال خطيبته عنه بعد أن حكمت عليه محكمة إسرائيلية بالسجن المؤبد مدى الحياة بعد اتهامه بالقيام بعمليات مقاومة ضد الاحتلال.
سنديانة فلسطين
اعتاد الشعب الفلسطيني على تقديم النماذج القوية من النساء اللواتي يمثلن المقاومة وينجبن أبناءها ويساعدن في نماء حركة التحرر، ومن هؤلاء النسوة لطيفة أبو حميد 73 عاماً التي كُتب عليها زيارة السجون الإسرائيلية منذ أكثر من 40 عاماً عندما بدأ الاحتلال بملاحقة أبنائها واعتقالهم.
للحاجة أم ناصر أبو حميد 6 من الأبناء المعتقلين في سجون الاحتلال والمحكوم عليهم بالمؤبدات لمرات عديدة، ومن أبنائها ناصر أبو حميد 51 عاماً، أصيب أول مرة برصاص الاحتلال وهو ابن 11 عاماً، اُعتقل في تاريخ 19/4/2002 محكوم مؤبد لسبع مرات و50 عاماً إضافيات.
ومن أبنائها المعتقلين أيضاً نصر أبو حميد محكوم مؤبد لخمس مرات، وشريف أبو حميد محكوم مؤبد لأربع مرات، محمد أبو حميد محكوم مؤبد لمرتين و30 عاماً، وجهاد أبو حميد محكوم عام ونصف إداري، وإسلام أبو حميد اعتقل بالسّجن المؤبد. بعد أن اتهمته محكمة إسرائيلية بقتل أحد جنود الاحتلال بحجر كبير رماه فوق رأسه.
عائلة أبو حميد من مخيم الفارعة قدمت نموذجاً فلسطينياً في النضال ضد الاحتلال على مدار عقود مديدة، إضافة إلى تقديمها نماذج بالفداء والشهداء ومنهم الشهيد عبد المنعم أبو حميد المعاصر لعهد الشهيد يحيى عياش، وقد عرف عن أبو حميد اصطياده لضباط الاحتلال، وبراعته في صراع الأدمغة منذ البدايات الأولى لتأسيس كتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس.
وهدم الاحتلال منزل عائلة أم ناصر أبو حميد في مخيم الأمعري برام الله خمس مرات، وذلك في الأعوام 1990، 1994، 2003، 2018، 2019. وقالت الحاجة أم ناصر “فليهدموا كل البيوت فداءً لفلسطين”، ثم وجهت رسالة لرئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو قائلة “هدمتم أول وثاني مرة وأعدنا البناء، وسنبني مجدداً، ما دام شبابنا بخير نحن أقوياء ولن نهتم”.
معركة طوفان الأقصى
على الرغم من الاجتياحات المتكررة لمدن وأرياف ومخيمات الضفة الغربية لا سيما مخيم الأمعري منذ معركة طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/ تشرين أول عام 2023 إلا أنَّ الأمال ما زالت منعقدة على المقاومة الفلسطينية في استعادة الأبناء الذين قضوا سنوات طويلة في السجون وينتظرون كذلك أحكاماً بالمؤبدات أن تنقضي وتزول بعملية تبادل للأسرى تنهي الألم وتقضي على سنوات الفراق.
ويستمر مخيم الأمعري في أعمال المقاومة الفلسطينية ويقدم نتيجةً لذلك العديد من التضحيات الجسام من الشهداء والأسرى ففي التاسع من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2023 ارتقى الشهيد مهند عبد القادر جاد الحق متأثرا بإصابته برصاص قوات الاحتلال خلال اقتحامها مخيم الأمعري بمدينة البيرة. إضافةً إلى ستة مواطنين أصيبوا بالرصاص الحي، بينهم 5 في الفخذ وواحد في البطن، واعتُقال ثلاثة آخرون.
وتتواصل المواجهة في مخيم الامعري متحديةً الاحتلال الإسرائيلي زارعةً الأمل في صفوف الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية، حاصدةً أرواح جنود الاحتلال، ملقيةً ببذرة المقاومة في كل يوم كي تنبت تحريراً للأرض وعودةً إلى الديار التي رحلوا عنها منذ سنوات طويلة وآن لهم ان يعودوا.