مطلع العام.. 35 شهيداً فلسطينيّاً حتى صباح اليوم الأخير من كانون الثاني/ يناير، فاتحة العام 2023. وإذا كانت حكومة بنيامين نتنياهو، ومعها المؤسسة الأمنية والعسكرية، قد سارعت إلى تأكيد عزمها على منح الصهاينة الشعور بالأمن، والثقة بالدولة، بعدما ضُربت واحدة من أعمق ركائز أيديولوجيتها الاستعمارية، “إسرائيل المكان الأكثر أماناً لليهود في العالم”، فإنّ الفلسطينيين بدورهم، يسارعون إلى فرض إرادتهم في مطلع هذا العام.
وميزة هذه الإرادة الفلسطينية، ليست في القدرة على الثأر فحسب، وتعقيد حسابات الإسرائيلي الذي تختلط لديه الذاكرة بالنسيان، فيقتل وكأنّه مطمئن إلى تسليم الفلسطيني، فتظهر دهشته المقهورة بقدر الغيط الذي يسيل من وجه نتنياهو، بعدما ثأر فلسطيني لإخوانه شهداء مجزرة جنين الأخيرة. ولكن ميزة هذه الإرادة، في قدرتها على الانبعاث المتجدد، فهي إرادة عصية على الفناء، وهي بمجرّدها، كذلك، تضرب واحدة من الأوهام الصهيونية التي اصطنعها بن غوريون لخلق شيء من الأمل للمستعمرين الجدد، لمّا قال: “الكبار يموتون والصغار ينسون”، فها هم الصغار أجلى ذاكرة، وأشدّ بأساً، حتّى إنّ الفلسطيني ليتفاجأ هو هذه المرّة، من أين جاءت كلّ هذه الإرادة، وقد جرت مياه كثيرة أسفل الجسر الفلسطيني من بعد انتهاء انتفاضة الأقصى؟!
قد يذهب البعض إلى أنّ هذه المقتلة قد اقترفتها حكومة بنيامين نتنياهو “لأنها الأكثر يمينية وتطرفاً”، وهو ما يستدعي التذكير بأنّ عدد الشهداء الفلسطينيين في العام 2022 قد بلغ 230 شهيداً، منهم 171 من الضفة الغربية، و53 من غزّة، و6 من الأراضي المحتلة عام 1948، يضاف إليهم 9335 مصاباً، و6500 أسير، ليوصف هذا العام المنصرم بأنّه الأكثر دموية في الضفة الغربية منذ العام 2005
وفي هذا الزمن الذي لم تزل فيه الذاكرة تقصر باستمرار، قد يذهب البعض إلى أنّ هذه المقتلة قد اقترفتها حكومة بنيامين نتنياهو “لأنها الأكثر يمينية وتطرفاً”، وهو ما يستدعي التذكير بأنّ عدد الشهداء الفلسطينيين في العام 2022 قد بلغ 230 شهيداً، منهم 171 من الضفة الغربية، و53 من غزّة، و6 من الأراضي المحتلة عام 1948، يضاف إليهم 9335 مصاباً، و6500 أسير، ليوصف هذا العام المنصرم بأنّه الأكثر دموية في الضفة الغربية منذ العام 2005. فليست القضية حكومة جديدة بقدر ما هي احتلال ومقاومة احتلال، دون نفي التحدي الذي تواجهه الحكومة الجديدة، بمقاومة الفلسطينيين الصلبة رغم كلّ الظروف المعاكسة لهم، وهو تحدّ يقابله تناقض إسرائيلي داخليّ آخذ بالتعمّق، تراه الأوساط الأكثر عقلانية في الكيان الإسرائيلي، بأنّه تناقض وجودي بالضرورة يأتي على جوهر الدولة ووجهها بالتغيير، مما يعني أن حكومة نتنياهو ستكون أكثر توتّراً وارتباكاً، كما أنّ المؤسسة الأمنية والعسكرية ستجد نفسها أمام مسؤولية مضاعفة إزاء هذه التحديات كلّها، ليرتفع عديد الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية، بعد عمليتي “النبي يعقوب” وسلوان 60 في المئة.
الغريب في كل ما يجري، أنّ الفلسطينيين وحدهم الذين يحملون عبء التصدّي لهذا الكيان الاستعماري، أداة العالم الغربي لضمان أبديّة هيمنته على منطقتنا وتبعيّتها، ومن ثمّ يعمّقون تناقضات الكيان، في حين تنصرف دول عربية إلى التحالف معه، أو التعويل عليه في حساباتها الاستراتيجية في عالم متغيّر، أو على الأقل بالإعراض الكلّي عن أيّ دعم جدّي لنضال الفلسطينيين، بالرغم من أنّ هذا النضال، بمحدودية أدواته، وبكونه يجري في قلب تناقضات فلسطينية داخلية معيقة كذلك، يكشف الإمكان الواقعي لتصفية الكيان، وإعادة صياغة مصالح عربية مشتركة على قاعدة القضية الجامعة. وهو في الأثناء كاف لفرض العرب قوّة دولية مؤثّرة من بوابة القضية الفلسطينية، وبعد ذلك يمكنهم الانصراف للتفتيش في المشكلات الذاتية بعد تصفية العامل الموضوعي المخرّب المتمثل في الكيان.
مقاومة الفلسطينيين الراهنة ليست في وارد التراجع، وإن كانت تجري في ظروف صعبة وغير مواتية، فهذه المقاومة المنبثقة من عمق الناس، والمستجيبة في الوقت نفسه إلى مجمل النضالات التي خاضتها المقاومة الفلسطينية المنظمة منذ تسع سنوات، تتأسس على القواعد الأصلية الأولى للقضية الفلسطينية، بعد انتهاء مشروع التسوية إلى ما يناقض الوجود الفلسطيني نفسه، وانكشاف مآلات أهم بنى هذا المشروع، المتجسدة في السلطة الفلسطينية
بيد أنّ المسألة ليست حسابات خاطئة، بقدر ما هي بُنى آثمة استمرّت في التبلور بما يتناقض مع هذا الواجب العربي، ليبقى صمود الفلسطينيين ونضالهم فرصة لدى أعداء الكيان الجذريين، لتسريع تناقضاته وإفشال حساباته، إن كان هناك صدق في الموقف وصحة في الرؤية ودقة في الخطّة.
والحاصل أنّ مقاومة الفلسطينيين الراهنة ليست في وارد التراجع، وإن كانت تجري في ظروف صعبة وغير مواتية، فهذه المقاومة المنبثقة من عمق الناس، والمستجيبة في الوقت نفسه إلى مجمل النضالات التي خاضتها المقاومة الفلسطينية المنظمة منذ تسع سنوات، تتأسس على القواعد الأصلية الأولى للقضية الفلسطينية، بعد انتهاء مشروع التسوية إلى ما يناقض الوجود الفلسطيني نفسه، وانكشاف مآلات أهم بنى هذا المشروع، المتجسدة في السلطة الفلسطينية، مما يعني بالضرورة تلمّس الممكن من العديد من الشبان للإجابة على أسئلة الواجب الملحّة، مع فاعلية عوامل التثوير الأخرى، الفلسطينية الذاتية، كعامل الإلهام الذاتي، سواء من المقاومة في غزة أم من المجموعات المسلّحة الجديدة في شمالي الضفة أم من حالة الشهادة والعمليات ذاتية الدافع الناجحة، أو الشعور بالمسؤولية نحو المسجد الأقصى والاستجابة القتالية لتحدي الاستيطان في بنيته المادية وبعده البشري، بالإضافة للجرح الدائب في مخاطبته للضمير الفلسطيني الموجوع، وهو جرح الأسرى. (في أثناء كتابة هذه المقالة يعتدي السجانون الصهاينة على أسيرات سجن الدامون).
بالنظر إلى طبيعة الصراع وتاريخيته، فإنّ القضية ليست في الآماد المنظورة لما يمكن للإسرائيلي أن ينجزه أمنيّاً، ولكن في حتمية تجدّد الإرادة الفلسطينية، بما يعني جوهريّاً فشل المشروع الاستعماري الصهيوني، الذي لم يتمحص فشله في النهاية المؤكدة بعد، لعوامل موضوعية تتمثل في الانهيار العربي، وفي إصرار قيادة مشروع السلطة على ما تقرّ بفشله وكارثيته
الإسرائيلي في المقابل، مرتبك إزاء هذه الحالة النضالية، التي لم تزل تأخذ أشكالاً متنوعة منذ العام 2015، فلا يمكن القول إنّه تمكّن بعد من تطويقها، أو تفكيكها، مع أنها تجري في أقلّ ظروف النضال الفلسطيني تاريخيّاً مواتاة. وبالنظر إلى طبيعة الصراع وتاريخيته، فإنّ القضية ليست في الآماد المنظورة لما يمكن للإسرائيلي أن ينجزه أمنيّاً، ولكن في حتمية تجدّد الإرادة الفلسطينية، بما يعني جوهريّاً فشل المشروع الاستعماري الصهيوني، الذي لم يتمحص فشله في النهاية المؤكدة بعد، لعوامل موضوعية تتمثل في الانهيار العربي، وفي إصرار قيادة مشروع السلطة على ما تقرّ بفشله وكارثيته.
وفي الأثناء، لا يجد الإسرائيلي بدّاً من تثبيت وقائعه الاستعمارية في الضفة، وتكريس ما يسميه “السيادة” على القدس، لتبقى عوامل التثوير قائمة، مهما استعان الإسرائيلي بالنسيان على ذاكرته، واستند للأوهام بدلاً من الحقائق، وواظب على رؤية الفلسطيني على غير حقيقته النضالية المتجددة باستمرار.