يحيي الاحتلال الذكرى السنوية الخامسة والسبعين لتأسيسه على أنقاض فلسطيننا المحتلة، وما زال مجتمعه يعاني صدمات مستمرة، ما جعله يراكم على مدار أكثر من سبعة عقود متواصلة جملة من الصعوبات المحيطة به.
صحيح أن الاحتلال أنشأ دولته من العدم، لاعتبارات ذاتية وموضوعية كثيرة، لكنه في الوقت ذاته بقي طوال هذه السنوات المديدة يصارع الصدمات الجماعية المتمثلة في عشرات الإجراءات العدوانية التي شنها على الفلسطينيين والعرب، والردود التي نفذوها ضده، حتى أن مفردة “التهديد الوجودي” بقيت ماثلةً أمامه في كل خطاباته السياسية، حتى أن قصائد الشعراء لديهم ركزت في الكثير منها على الصدمات الجماعية.
في هذه المناسبة التي يحيي فيها الإسرائيليون ذكرى تأسيس كيانهم الغاصب، نحيي نحن الفلسطينيين ذكرى نكبتنا المستمرة في ظل يقيننا الكبير بالعودة قريبًا، فإن الاحتلال وأفراده ما زالوا مسكونين بأجواء الصدمات والتهديدات والأحداث الصعبة والمقلقة التي تنطوي على آلام جسدية وعقلية، وتستدعي من حكوماته المتعاقبة العمل على زيادة المرونة والقدرة لديه للتكيف مع هذا الواقع الأمني المعقد الذي يأبى أن يتوقف، ليستطيع الإسرائيليون المحتلون مواصلة حياتهم الشخصية والمهنية.
لا شكَّ أن العديد من الأحداث التاريخية الخاصة بالإسرائيليين واليهود جعلتهم يصلون إلى هذه المراحل المتلاحقة من الصدمات، لكن ما أحدثته المقاومة الفلسطينية المتواصلة، والحروب العربية الإسرائيلية، باعدت بين الإسرائيليين وبين التأقلم معها، على اعتبار أنها أحداث لا يمكن الشفاء منها بإعادتهم للمستوى السابق من الأداء العقلي والسلوكي، ويمكن تسمية هذه الحالة بمتلازمة ما بعد الصدمة، بحيث تصبح الإصابة النفسية معقدة، لأن أساس الثقة في الدولة ذاتها يتضرر، ويخلق ردود فعل قلقة.
يتزامن إحياء الإسرائيليين لذكرى تأسيس دولتهم مع تصاعد روح المقاومة بين الفلسطينيين، دفعت بالكثيرين منهم للبحث عن أماكنَ ودولٍ وأراضٍ أكثر أمنًا، بعد أن تحول العيش في فلسطين المحتلة إلى كابوس مرعب لا يطاق، وبعد انكماش اقتصادي يلوح في الأفق، بالرغم من أن هؤلاء المهاجرين خارج فلسطين المحتلة وصفهم “إسحق رابين” ذات مرة بأنهم “نفاية الضعفاء”، في ضوء أن الهجرة للخارج كانت تعد إلى أمد قريب من المحرمات الكبرى في المجتمع الإسرائيلي.
في الوقت ذاته فإن الأجواء النفسية التي رافقت الإسرائيليين في العديد من سنوات قيام كيانهم طغى عليها مفردات الفزع، الخوف، الهستيريا، الإحساس بالعجز، القلق، الخوف من الغد، بل إنهم لا يترددون في الإعلان أن “معظم آبائنا ناجون من الكارثة النازية، أما نحن فلم نعد قادرين على تحمّل البقاء في هذه البلاد، لقد أصابنا الانهيار، فقدنا الأمل، بتنا نخاف من نشوب حرب كبرى، ونخاف على مصير أولادنا… ماذا نفعل؟”.