حتى الآن، لا يبدو أن قيادة السلطة الفلسطينية معنية بالرد على فضيحة قناة الأموال السرية، التي كشفت صحف إسرائيلية عنها، مؤخرًا، ويتم بموجبها تحويل أموال من كيان الاحتلال إلى السلطة، عبر آلية سرية (غير قانونية) لا تخضع للموازنتين الإسرائيلية والفلسطينية.
بغض النظر عن حجم المبلغ، الذي تقول المصادر إنه بلغ 100 مليون شيقل، فإن الخبر لا يبدو (على النطاق الفلسطيني) باعثًا على الدهشة، لأنه متعلق بسلطة بات الفساد إحدى أهم ركائزها ودعائم بقائها، لكن مظاهر الاحتجاج كانت داخل كيان الاحتلال، إعلاميًا وبرلمانيا، لكون الكيان يقدّم نفسه راعيًا للنزاهة الإدارية، والمساءلة حول كل التجاوزات الرسمية، التي تصل حدّ محاكمة رموز لهذا الكيان ثبت تورطهم بالفساد.
ويبدو أن هذه القضية لا تشكل سوى رأس الجبل الجليدي، بمداها وكمية المبالغ المتعلقة بها، لكن السؤال المهم حول الدافع الذي اضطر حكومة الاحتلال لسلوك سري كهذا، خارج حسابات المقاصة أو لوائح العلاقة المالية مع السلطة كما تحددها القوانين الإسرائيلية، فهل كان الصندوق المالي السري نظير خدمات خاصة وجوهرية وثمينة قدمتها السلطة لكيان الاحتلال؟ أم مكافأة على جهودها الأمنية المتواصلة منذ خمسة عشر عامًا على الأقل، ونتيجتها التي أفضت إلى تنعّم الاحتلال بكل هذا الهدوء على جبهة الضفة الغربية، إذ من الطبيعي أن تنصرف الأذهان تلقائيًا إلى الخدمات الأمنية عند أي حديث عن جهود للسلطة تخدم الاحتلال، ويرى لزوم مكافأتها عليها.
المفارقة هنا، أنه حين يتعلق الأمر بأمن الاحتلال فإن كيانه مستعد لتجاوز قوانينه الداخلية والقفز عن لوائحه الإدارية، لأجل إتمام استحقاقات هذا الأمن، أما قيادة السلطة وأركانها المختلفة فمستعدة للتضحية بأمن الفلسطيني وكرامته ومستقبله لأجل التكسّب والإثراء غير المشروع، بمعنى أنها تبيع شعبها وتسرق أمواله وتقوّض مقاومته لعدوّه لأجل مصالح ضيقة وخاصة لزمرتها المتنفذة.
ربّما لم تعد فضائح الفساد هذه ومثيلاتها تثير دهشة الشارع الفلسطيني الذي اعتاد سماعها وملامستها في واقعه، حتى إن السلطة لا تجد نفسها ملزمة بالتعقيب على خبر كهذا أو تقديم اعتذار ولو كاذب، أو كشف ملابسات ما جرى، أو التحقيق فيه، فهي المتهم والقاضي في الوقت ذاته، ولا تخشى محاسبة أو مساءلة بعد أن اغتالت السلطة التشريعية والرقابية، وعبثت بالمنظومة القضائية، وصارت كل الشؤون المفصلية والحساسة تُدار مركزيًا من المنظومة المتنفذة المتحلقة حول محمود عباس.
لكن المدهش، ولو قليلا، هو استمرار قيادات السلطة وأبواقها في إبداء الطهورية الوطنية واحتكار تمثيل (المشروع الوطني) وادعاء حمايته والسير فيه نحو التحرر من الاحتلال، وتوظيف هذه الشعارات المتهتكة في سياق مهاجمة الخصوم السياسيين والتحذير من مؤامراتهم على المشروع الوطني، والتعهد بالاستمرار في محاربتهم، لأجل المصلحة العليا للشعب والقضية، في حين الأمر على حقيقته، أن هذه القيادة البائسة تقدم خصومها قرابين لعدوِّها، وتستمر في تقليم أظفار المقاومة قبل نموّها، لتجبي من عدوّها ثمنًا عاليًا عبر القنوات المالية العلنية والسرية، لكنّ ما تجبيه سيظلّ مالًا أسود، تبيع لأجله كرامتها وتقامر في سبيله بمصالح شعب بأكمله، وحاضر ومستقبل قضية تاريخية.