بعد أكثر من سبعين يومًا على اعتقالهم في سجن أريحا، قررت عائلات المعتقلين السياسيين البدء في خطوات تصعيدية بهدف الضغط لأجل الإفراج عن أبنائهم، منها الإضراب المفتوح عن الطعام الذي شرعت فيه والدة المعتقل أحمد هريش، من بيتونيا في رام الله، وهو أحد المعتقلين الذين تعرضوا لتعذيب وانتهاك شديدين خلال احتجازهم في سجون السلطة، على الرغم من أنه -ومثله معظم المعتقلين- أسير محرر من سجون الاحتلال، وقد أمضى فيها ثمانية أعوام، ورُزق أمس بطفله الأول، دون أن يُسمح له بزيارته أو رؤيته، ولو من باب المبادرة الإنسانية.
ومثل أحمد، فلدى كل معتقل سياسي قصة وتفاصيل، لن يزيدنا التعرف إليها إلا إدراكًا لبشاعة الجريمة التي ترتكبها أجهزة السلطة بحق ثلة من خيرة شباب الضفة الغربية، يتم اعتقالهم وتعذيبهم وتلفيق اتهامات باطلة لهم، فيما هم في الحقيقة معتقلون على خلفية نشاطهم الوطني أو الطلابي أو الإعلامي ونحو ذلك من مجالات نشاط ميدانية، تحاربها السلطة وأجهزتها، في سياق هيمنتها على الضفة وسعيها إلى أن تكون هيمنة مطلقة، تغيّب كل صوت وكل نشاط يغرّد خارج سربها، أو يضيء شمعة في ليل السكون والجمود، أو يساهم في تعافي الضفة الغربية من واقعها المظلم والقاهر، الذي ترزح تحته منذ أكثر من خمسة عشر عاما.
لعلّ علينا هنا أن نتوقف مليّا عند معنى أن تضطر أمّ إلى الإضراب عن الطعام لأجل ابنها المعتقل في سجون سلطة تعرّف نفسها بأنها وطنية، بعد أن كابدت الأم ذاتها مرارة غياب ابنها ذاته خلف قضبان سجون الاحتلال، ثم ها هي ترى ابنها يدفع ضريبة التزامه الوطني مرتين، ويعذّب بكل بشاعة ويعزل في زنزانة منفردة في سجن أريحا، فلا تجد سبيلًا لنصرته وتفعيل قضيته إلا بإضرابها هي عن الطعام، ومكابدة آلام تضاف إلى آلام حزنها بسبب اعتقاله وتعذيبه وتغييبه كل هذه المدة.
وهذه حالة من عشرات الحالات المعتقلة حاليًّا، وآلاف الحالات التي طالها الاعتقال السياسي على مدار سنوات طويلة، دون أن يتكفل شيء بحمل السلطة على وقف هذه السياسة والكف عن تلك الجريمة الوطنية والأخلاقية، ذلك أن السلطة التي تجد نفسها دائمًا معنيةً بتقديم قرابين الولاء لمشغِّليها وحماتها لا تجد غير أعمار الشباب المحسوبين على فصائل المقاومة فتقامر بها، لتثبت وفاءها باستحقاقات التنسيق الأمني، ومشاركتها في جهود إضعاف ساحة الضفة الغربية وإبقائها مشتتة وقضاياها متناثرة وهمومها متعددة وموزعة على جبهتي الاحتلال والسلطة، وكل طرف منهما يصنع إشكالات وهمومًا، لكنهما يتقاطعان في الهدف من كل ذلك، وهو تحييد الضفة الغربية عن مسار الفعل وضرب بنيتها الوطنية والتنظيمية، وبث اليأس والشعور باللا جدوى في أوساط الناس.
غير أن كل هذا لا يسوِّغ الاستسلام لهذا الواقع ولا يجيز التغاضي عنه، فإسناد حراك ذوي المعتقلين السياسيين هو واجب على كلّ حرّ، بمختلف أشكال الإسناد، لأن من يتضامن معهم ويحمل قضيتهم إنما يتضامن مع القضية الوطنية عمومًا، بما تعنيه وما يترتب عليها، وأول ذلك أن يُعاد تحرير المفاهيم حول الاعتقال السياسي وخلفيته ودوافعه، وأسباب استمراره حتى في ظل مبادرات المصالحة الشكلية، وحينها تصبح هذه القضية مركزية ومهمة مثل بقية القضايا الأساسية كالأسرى والمقدسات وحق العودة وغيرها، ذلك أن فرسان هذه القضية أحرار شرفاء، ويمثلون الطليعة الوطنية المستعدة دومًا للبذل والعطاء، ولهذا تلاحقها السلطة وتجرّم نشاطها، وتتعمد إقصاءها من المشهد العام، وهو المشهد الذي يثريه وجودها، ويسيّجه تعافيها، وينضجه نشاطها.