ضجت وسائل التواصل الاجتماعي بالأمس بصور عارية لسائحات في #المسجد_الأقصى المبارك، أو صور أحضان لعاشقين من السياح أمام قبة الصخرة، في توظيف منحط لأقدس مقدسات المسلمين باعتباره “خلفية جمالية” لاستعراض الفاتنات أو لتكريس اللحظات الرومانسية.
هذا التطور ليس ناتجاً عن “سلوك طائش” أو “عدم حساسية” تجاه المقدس، بل هو حصيلة إرادة صهيونية ممنهجة لنزع القداسة عن ساحة المسجد #الأقصى الشاسعة، باعتبارها مكاناً “غير مقدس” إسلامياً، وباعتبارها لا تدخل ضمن تعريف الأقصى؛ ولفهم معنى هذا الفعل المهدف من شرطة الاحتلال لا بد من التوقف عند ثلاثة خلفيات أساسية:
الخلفية الأولى: انتزعت شرطة الاحتلال من الأوقاف الإسلامية في #القدس صلاحية إدخال السياح للمسجد الأقصى المبارك في 20-8-2003 في ذروة قمعها لانتفاضة الأقصى، بعد أن كانت الأوقاف الإسلامية التابعة للأردن هي الجهة الوحيدة التي تنظم الدخول إلى المسجد الأقصى المبارك، إذ كان دخول السياح بيدها كما دخول المسلمين، وكان الاستثناء الوحيد هو اقتحامات للمتطرفين الصهاينة تفرضها شرطة الاحتلال في الأعياد اليهودية فقط.
كانت الأوقاف تحرص على أن يكون دخول السياح إلى المسجد الأقصى بين الصلوات، وبرفقة أدلاء من الأوقاف يعرّفونهم بالمكان بصفته أحد أقدس مساجد المسلمين على وجه الأرض، ويلزمونهم بالتالي بشروط اللباس ويحرصون على منع إدخال الخمور للأقصى، ويتأكدون من أن لا يجري أي تصوير مخلٍّ بطهارة المسجد وقدسيته، وكانت قبة يوسف آغا في الساحة الجنوبية الغربية محطة دخول السياح، حيث يقطعون تذاكر دخول ويُزوّدون بأغطية رأس وبأدلة مطبوعة وإرشادات، وقد أوقفت الأوقاف إدخال السياح بعد اندلاع انتفاضة الأقصى في 28-9-2000 عقب اقتحام شارون للمسجد.
من ذلك التاريخ باتت شرطة الاحتلال هي من تتولى فرض إدخال السياح تحت حراستها، دون أي اشتراطات للحشمة ولا لقدسية المكان إسلامياً، لتكريس التعامل مع ساحة الأقصى بوصفها جزءاً منفصلاً عنه، ليس مقدساً وليس للمسلمين أساساً، وباتت تعرف السياح على الأقصى بوصفه “جبل الهيكل” اليهودي الذي أقام المسلمون فيه مسجدهم.
قابلت الأوقاف ومن فوقها الحكومة الأردنية ذلك بالتراجع وتجنب الاصطدام، وهو ما سيتحول لاحقاً إلى خط عام في السياسة الخارجية الأردنية، وهو منع التوتر في الأقصى من التحول إلى عنوان توتير للعلاقات مع الصهاينة –ويترجم اليوم إلى مصطلح “التهدئة في القدس”، رغم أن #الأردن هو الدولة المسؤولة مباشرة عن المسجد الأقصى نيابة عن الأمة الإسلامية بموجب القانون الدولي والوقائع التاريخية.
لم تحاول الأوقاف إعادة فتح #قبة_يوسف_آغا، ولم تحاول مقابلة التغول الصهيوني بمحاولة فرض إرشاداتها للسياح في أرجاء المسجد، وإيصال رسالتها إليهم ليحترموا قدسيته، بل بقيت قبة يوسف المقابلة لباب المغاربة آغا مغلقة وتستخدم كمستودع من وقتها وحتى اليوم.
الخلفية الثانية: جاء انتزاع صلاحية الأوقاف بإدخال السياح للأقصى في سياق خطة أشمل لإضفاء المشروعية على فرض دخول المقتحمين اليهود للأقصى، بمعنى أن الأوقاف مسؤولة فقط عن الحضور الإسلامي في الأقصى وليس عن الأقصى كمكان مقدس، أما دخول غير المسلمين –سياحاً كانوا أم يهوداً صهاينة- فإنه من مسؤولية الكيان الصهيوني بصفته “سيداً” على المكان، وبصفته يمثل “الحق اليهودي” المزعوم في الأقصى. فالشاباك كان في 27-2-2001 قد أوصى بتمكين اليهود من اقتحام الأقصى واتخاذ الإجراءات اللازمة لذلك، وقد شكل أريئيل شارون لجنة وزارية في 8-5-2001 إبان رئاسته للوزراء لدراسة سبل فرض ذلك، واحتكار إدخال السياح هو أحد تلك السبل.
من هذا الباب فإن تمكين السياح من التعامل مع ساحات الأقصى بوصفها ليست مقدساً إسلامياً هو مقدمة مهمة وضرورية لتمكين اليهود من ذلك؛ فما دامت هذه الساحات ليست مقدسةً للمسلمين بموجب ممارسة “عالمية” يكرسها سلوك السياح، فإن اقتحام اليهود وتقديسهم لها وأداء طقوسهم فيها لا يحول دونه مانع.
من هنا لا بد أن ندرك أن العُري بات الضرورة الملازمة لفرض الاقتحامات والطقوس التوراتية في المسجد الأقصى المبارك، وتفاقمها يأتي ليعزز مخطط التأسيس المعنوي للهيكل.
إلى جانب ذلك، يشكل احتكار إدخال السياح لصالح شرطة الاحتلال بديلاً مهماً لفرض اقتحامات الصهاينة، فكل صهيوني يحمل جنسية أجنبية يستطيع دخول الأقصى بصفته “سائحاً”، وكثيراً ما شهد الأقصى اعتداءات صهيونية من بوابة السياحة، كإدخال الخمور وخرائط الهيكل، وإدخال الشمعدان اليوم إلى الأقصى.
الخلفية الثالثة: يأتي استفراد سلطة الاحتلال بالأقصى بهذه الطريقة، واستخدامها للسياح لتدنيسه كحصيلة لضرب جهاز حراس المسجد الأقصى المبارك بالاعتقال والإبعاد عن المسجد الأقصى كما يحصل مع عشرات الحراس سنوياً، وبسجنهم على أداء دورهم في الأقصى الذي هو في جوهره واجب ديني وأخلاقي أكثر مما هو دور وظيفي مقابل راتب، ومن ثم بتصفية الحسابات معهم خارج الأقصى بهدم بيوتهم؛ كل ذلك دون أن يحصلوا على الحد الأدنى من الحماية السياسية والقانونية من الدولة التي توظفهم لأداء هذه المهمة، والتي يمنعها الاحتلال من توظيف أي حارس جديد منذ خمس سنوات كاملة، ويحاول أن يفرض عليها تغيير مهمة الحراس كشرط لتمكينها من توظيف حراس جدد.
وإذا كان السؤال قد ثار عن دور #حراس_الأقصى مع نشر هذه الصور، فهو يعبر عن الأسى للحال الذي وصل إليه جهاز الحرس الذي تُرك تحت كل تلك الضربات دون غطاء. وإن استجابة إدارة الأوقاف لهذا التحدي صباح اليوم تشكل استمراراً مؤسفاً لسياسة تصر على تجنب جوهر المشكلة، إذ اجتمع بهم عزام الخطيب مدير الأوقاف ليحيي “وقوفهم أمام ما يتعرضون له من تحملات تضليل من أطراف عديدة”، وكأن مشكلتهم هي مع مجتمعهم وعمقهم الذي هم منه وهو منهم وليست مع الاحتلال!
في المحصلة، وأمام خطورة ظاهرة العري بذاتها كشكل من تحقير أقدس مقدسات المسلمين، وما ترمي إليه من نزع الصفة الإسلامية عن ساحة الأقصى على اتساعها، والتمهيد لها بضرب جهاز حراس المسجد الأقصى ومحاولة تقويض دورهم، فإن هناك ثلاثة مساحات فعل يمكن عبرها التصدي لكل ذلك:
الأولى: تعزيز الحضور والرباط إلى الأقصى، بشكل يعزز مسؤولية كل مصلّ ومرابط عن المسجد الأقصى المبارك، ويعمق السند الشعبي لحراس المسجد الأقصى.
الثانية: المبادرة الشعبية إلى طباعة ونشر إرشادات واضحة مبسطة متعددة اللغات تؤكد القدسية الإسلامية للأقصى، ومقتضيات تلك القدسية على الزوار، والحرص على نشرها بين السياح بكل الوسائل، وفي أرجاء المسجد الأقصى المبارك، وعلى الإنترنت، فكثير من تلك الممارسات هي حصيلة توظيف شرطة الاحتلال للسياح وسلوكهم.
الثالثة: من واجب الأوقاف الأردنية أن تعيد فتح قبة يوسف آغا كمركز لتوجيه الزوار، وأن تعلق اللوحات الإرشادية والتوضيحية في طريق السياح، وأن توفر الأغطية المحتشمة في قبة يوسف آغا عند نقطة دخول السياح، ما يجعل تجاهلها قراراً واضحاً من شرطة الاحتلال بتمكين العري، وبما يؤكد أن الأوقاف تصر على أمانتها بصفتها الجهة التي تدير المسجد كمقدس إسلامي، وليست الجهة التي تدير الحضور الإسلامي فيه فقط كما يحاول الاحتلال إعادة تعريفها.