نادت نملة على صديقاتها وجاراتها وأهلها: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ، والدخول إلى المسكن يكون طلباً للأمن والحماية، وفي المسكن يختلي الإنسان بنفسه، ويهجع طلباً للراحة، فالمسكن أو البيت هما المكان الذي ينيخ الإنسان عن كاهله أعباء الحياة، وصخبها.
للمساكن والبيوت عند الفلسطينيين معانٍ ودلالات تختلف عن بقية البشر، فالفلسطيني الذي عُذب بالطرد من وطنه، واغتصاب بيته، صار لاجئاً، وحين جد واجتهد، وأعاد بناء بيته في مخيمات وقرى اللجوء، وسكن إليها، جاءت الطائرات الإسرائيلية أو الدبابات الإسرائيلية، وهدمت البيت، ونسفته، وقصفته، وصار الفلسطيني للمرة الثانية بلا بيت يأوي إليه، فصار نسف البيوت وهدمها يعادلان نسف الحياة نفسها، وهدم مقومات الوجود، وقد حرص العدو الإسرائيلي منذ اليوم الأول لاحتلاله القدس على هدم حي المغاربة، وعمد إلى تدمير بيوت قريتي إقرت وكفر برعم في منطقة اللطرون في الضفة الغربية، وعمد إلى هدم أجزاء من مخيمات اللاجئين في غزة، وترحيل سكانها إلى العريش المصرية، وهدم العدو البيوت بذريعة فتح الشوارع، بل تعمد نسف البيوت التي كان يخرج منها الفدائيون، وكانت سياسة الإرهابي شاورن تقول: ما دام الفلسطينيون لا يخافون الموت، فهدم البيوت أوجع للفلسطينيين من الموت نفسه.
قبل أيام نشر مكتب الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة “أوتشا” تقريراً عن حصيلة المباني الفلسطينية التي هدمها الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 2009 فقط، وبحسب التقرير، فإن عدد المباني التي هدمتها قوات الاحتلال الإسرائيلي بلغ نحو ثمانية آلاف و746 مبنى فلسطينياً، وهجرت آلاف المواطنين الفلسطينيين منذ عام 2009، وحتى نهاية أغسطس من هذا العام.
عمليات هدم البيوت هذه أدت إلى تهجير نحو 13 ألف مواطن فلسطيني، وألحقت أضرارًا بنحو 152 ألفًا آخرين، وأشار التقرير إلى أن الهدم أدى أيضاً إلى حدوث أضرار بنحو ألف و559 منزلا، وأن المباني المهدمة قد تكون سكنية، أو متعلقة بسبل العيش، وقد تم الهدم بشكل مباشر أو أجبر أصحابها على ذلك.
وبغض النظر عن الحجج والذرائع الإسرائيلية، سواء لعدم وجود تصاريح بالبناء، أو لأن البناء في المنطقة الصفراء، أو لأن البناء يتعارض مع الأنشطة العسكرية، أو غير ذلك، فإن سياسة الهدم الإسرائيلية تهدف إلى قطع الصلة بين المواطن الفلسطيني والأرض الفلسطينية، وفي المقابل تعزيز الاستيطان اليهودي فوق الأرض العربية، وهذا ما انتبه له أبو عمار ـ رحمه الله ـ حين أصدر أوامره بعدم هدم أي بيت فلسطيني، سواء كان متعدياً على أرض حكومية، أو معترضاً لطريق رئيسة، وطالب باعتماد مبدأ التسوية، وعدم التعسف مع البيوت القائمة بلا تراخيص بناء، وهذا ما أكده رئيس الوزراء في حينه إسماعيل هنية، وهو يعتمد القرار 9 لسنة 2015، مع فتح باب التسويات مع المواطنين، وهذه هي السياسة الفلسطينية المتبعة مع التعديات، سواء في غزة أو الضفة الغربية.
هدم البيوت ونسفها سياسة إسرائيلية تهدف إلى تشريد سكان الضفة الغربية، وعدم السماح للعرب في يافا وبقية المدن الفلسطينية المغتصبة بترميم بيوتهم، سياسة تهجير لفلسطينيي الـ48، وقصف الأبراج في غزة سياسة تهدف إلى تخويف الفلسطينيين، ومع كل هذا التخريب الإسرائيلي المتعمد ما زال الفلسطيني يتمسك بوطنه، وإذا أراد أن يبني بيتاً يقول: بدنا نعمّر، وإذا أتم البناء يقول: عمّرنا.
لتظل بيوتنا نحن الفلسطينيين همس الأمنيات، ودعاء الأمهات، وتظل بيوتنا نحن الفلسطينيين ذاكرة الحزن، وزغرودة الفرح، وتظل بيوتنا حروف لغتنا، وحنين غربتنا، ولملمة شملنا في زمن الخصام والانقسام.