رجّح جيش الاحتلال أخيراً أن يكون أحد جنوده قد قتل “عن طريق الخطأ” مراسلة قناة الجزيرة الفضائية، شيرين أبو عاقلة.
وفي حين أنّ الجيش يرفض الجزم بهذا “الاحتمال”، كما يرفض محاكمة الجندي، فقد نقل أسف الجندي على فعلته. ليس ثمة حاجة لالتقاط هذه المفارقة لإدراك أن الجيش متأكّد من كون جنديه هو قاتل الصحفية الفلسطينية، فالأمر بيّن من اللحظة الأولى.
استخدم حيش الاحتلال، تقنية التملّص التدريجي من الجريمة لامتصاص تداعياتها عليه، فطرح احتمالات متعدّدة، مفادها كلّها نفي القصدية عن قتله شيرين، وهو ما انتهى إليه تحقيقه المزعوم، ثمّ بعد ذلك، وكأنّ شيئاً لم يحصل.
ما ينبغي أن يُسأل، والحالة هذه، إن كانت حيثيات قتلها برصاص الإسرائيلي سوف تغيّر من الموقف جوهريّاً. بمعنى ما المختلف بين أن تكون قتلت برصاص إسرائيلي “عن طريق الخطأ”، أو قتلها جنديّ قصداً بدافع ذاتيّ منه، أو بأمر رسميّ من قائده؟ هذه الأسئلة تتصل بإشكاليات الخطاب الحقوقي في السياق الفلسطيني.
في تقنية التملص التدريجي جعل الاحتلال من جملة الاحتمالات مقتل شيرين برصاص مسلحين فلسطينيين، وحاول تعزيز هذه الاحتمالات بفيديوهات زائفة، وهو ما تبناه بعض متصهيني العرب، الذين يحترفون خطاب الكراهية، غير المفهوم، ضدّ الفلسطينيين (ما جعله الصهيوني الأصلي احتمالاً جعله المتصهين العربي حقيقة!).
كانت محاولة الاحتلال هذه جريمة معزّزة، فإنكار الجريمة لا يقل جرماً عن اقترافها الأصلي، بيد أنّ محاولة الإنكار هذه، ووصم الضحية بالجريمة، كانت تخفي في النقاش العام جريمة أخرى، وهي الجريمة الأصلية.
الاحتلال الموجود أصلاً، ثم اقتحام جيش الاحتلال لمدينة جنين، هو ما دفع الشبان الفلسطينيين لحمل السلاح والقتال، ودفع شيرين للوصول إلى جنين لتغطية مشهد إسرائيلي بامتياز (الاحتلال والعدوان). في هذا السياق، يصير جميع الفلسطينيين في الموقع ضحايا الاحتلال، الشبان المسلحون والصحافيون ومارة الطريق والباقون في بيوتهم، ولا يعود مهمّاً بعد ذلك، في هذا السياق تحديداً، السؤال عن مصدر الرصاصة، فسبب وجود الرصاص، هو وجود الاحتلال، ثم الاقتحام والعدوان.
الجريمة الأصلية أصلاً في وجود جيش الاحتلال في جنين. لم يكن المسلحون الفلسطينيون يطلقون الرصاص في اقتتال أهليّ، ولم تكن شيرين تغطّي شجاراً عشائريّاً
هذا الموقف التأسيسي، لحوادث من هذا النوع، لا ينبغي أن يغفل في الوقت نفسه وقاحة الاحتلال، وبالضرورة دناءة أتباعه ممن يتبنّون خطابه. فدعايته الأولى، التي جعلت من جملة الاحتمالات مقتل شيرين برصاص فلسطيني، لم تكن تقصد فقط إلى التملص التدريجي من الجريمة، وإنّما أيضاً إلى إثارة دعاية مضادّة للفلسطينيين، فخطأ المقاتل الفلسطيني، غير المدرّب، الذي تمكّن من امتلاك السلاح في ظروف غاية في الصعوبة والقلق، يصير سبباً لإدانة الفلسطيني والسعي لتحطيمه معنويّاً وعزله أخلاقيّاً، بينما خطأ الجندي الإسرائيلي المدرّب، الذي يعتاد حمل السلاح، ويفترض أخلاقيّاً أن يتحمّل المسؤولية إزاء الواقع الذي خلقه، يصير سبباً لتبرئته ونفي الجريمة عن قوّة الاحتلال!
في اليوم التالي، للإعلان عن تحقيق جيش الاحتلال في مقتل شيرين، اقتحمت أكثر من 100 آلية إسرائيلية مصفحة، وأكثر من ألفي جندي إسرائيلي، مدينة جنين، لهدم منزل والد الشهيد رعد حازم. يمكن ملاحظة إصرار الاحتلال على سياسته؛ بفرض القهر المضاعف على عوائل الفلسطينيين بهدم بيوتهم، في إطار ما يُسمى “سياسة العقاب الجماعي”.
هذه السياسات التي تعاقب العوائل، وإن كانت تهدف إلى تهشيم صورة المناضل في الوعي الفلسطيني بتحويله إلى عبء على أهله وعلى المجتمع، وإلى مضاعفة كوابح الدافعية النضالية لدى الفلسطينيين، فإنّها في الوقت نفسه تكشف عن الضعف الكامن في الاحتلال وعن انحطاطه الأخلاقي الظاهر، وعن كون مشكلته مع الفلسطيني من حيث هو فلسطيني، لا مع حامل البندقية فحسب، وهو ما يعود بالموقف إلى قتل شيرين، فهي فلسطينية، وهذا سبب كاف لقتلها، بمبادرة من الجنديّ أم بأمر من قائده، لا فرق، تماماً كما عشرات الصحفيين الذين قتلهم الاحتلال، وكما آلاف الفلسطينيين الذين قتلهم وهم لا يحملون السلاح أصلاً.
في ليلة الاقتحام هذه، قتل جيش الاحتلال الشاب الفلسطيني محمد سباعنة، الذي لم يكن يحمل سلاحاً، وإنما كان يغطّي الاقتحام في بث مباشر على أحد تطبيقات التواصل الاجتماعي. مرّات كثيرة سابقة، تحدثنا عن الذين قتلهم الاحتلال في ظروف مشابهة، وعمّا هو أبلغ في بيان مظاهر قصديته إلى نفي الفلسطيني وطمسه باستسهال قتله، كالذين قتلهم في بيوتهم، أو على الحواجز.
لن يثار كلام كثير عن جريمة قتل الشاب محمد سباعنة، فهو ليس صحفيّاً، فضلاً عن أنه يعمل على دراجة نارية لتوصيل الطلبات، لا في قناة فضائية كبرى. لكن شيرين لم تكن قد قتلت لأنها صحفية مشهورة تعمل في قناة كبيرة، وإنما لأنّها فلسطينية، كمحمد سباعنة تماماً!