مرت ذكرى اتفاقية أوسلو دون أن يعبأ بها أحد، الكل يتبرأ منها ويلعنها وينتقدها شرّ انتقاد، حتى الذين وقّعوها لو أتيحت لهم الفرصة من جديد لمزّقوها “وللعنوا سنسفيلها”، كانت حينها عروسًا جميلة باهرة خرجت للتوّ من أعرق صالونات التجميل وأمهرها، أُعدّت لتزفّ للفدائي الفلسطيني القادم من غبار المعركة، تزيّنت وتجمّلت ولبست حللها القشيبة ونزلت من عليائها لتأخذ بيد عريسها وتحلّق به عاليًا على أنغام موسيقى السلام العتيدة، كان عرسًا خارقا وكانت حفلة أعدّت للوالهين المتيّمين وكانت فاتحة لبيت زاهر وواعد بالسعادة والرفاه والبنين في أرض السمن والعسل وكان يعد بأن تكون فلسطين ما بعد أوسلو سنغافورة الشرق.
قد يصحّ القول إنها صنعت سنغافورة للمستوطنين بما يتمتعون به من رفاه وازدهار، تضخّم الاستيطان وتضخّم وجودهم وتيسّرت لهم أمورهم وطرقهم وارتقت معيشتهم، عن القدس ماذا فعلوا بها وكيف حافظوا على ما نصّت عليه الاتفاقية المخلخلة نصوصها أصلا؟ ليس هذا موضوعنا ولكنها بركات اوسلو التي تصيب كلّ شيء فتمنحه الحياة والازدهار في ظلها الوفير وحضورها العزيز!
شيئا فشيئا كشفت هذه العروس عن وجهها فإذا هي عجوز شمطاء في غاية القبح والبوار، تنذر بشرر كالقصر، كأنه جمالات صفر، لم تقم الدولة ولا شبه الدولة ولم تأت بسنغافورة، وجدوها وقد تمخّض الجمل فولد فارا، كانت دولة الاحتلال في أحلك أيامها معنا تعد بحكم ذاتي ذو ولاية على السكان دون أن يكون له ولاية على الأرض فإذا بنا بهذا الشيء الجديد الذي عجزت المصطلحات على تسميته لم يحقّق ولاية على أرض ولا سكان، حتى السجل السكاني المدني لم يظفر به الفلسطينيون وبقي مرهونا بهم يتحكّمون به، لا تستطيع السلطة أن تقرّر أن هذا الانسان مواطن لها أم لا إلا بلمّ شمل يصرّح به الاحتلال، عندئذ يدخل سجلّك السكاني أيها الفلسطينيّ العتيد، والضرائب التي تحصّلها لنا دولة الاحتلال تبقى رهن بيدها تلعب به أهواؤها كيفما تشاء وتخضع للابتزاز والاشتراط وحسن السيرة والسلوك.
أمّا عن المعابر فحدّث ولا حرج فوجود الفلسطيني عليها وجودا رمزيا لا يهشّ ولا ينشّ ولا يملك قرارًا بعبور أي شيء إلا بموافقة الخواجا الرابض على صدور المسافرين هناك، ماذا يفعل الفلسطيني صاحب الرتبة والسيادة إذا قرّر الإسرائيلي إرجاع مواطنك من الدرجة الأولى ومنعه من السفر، هل يملك الفلسطيني المرابط هناك سوى الحوقلة وتسجيل “المرتجع” من المسافرين، لا أدري لماذا ولمن يسجّل، آه تذكّرت يسجّل للتاريخ.
الإسرائيلي يقرّر والفلسطيني يسجّل، عندما يقرّر الإسرائيلي منع الآلاف المؤلفة من الفلسطينيين المتجذّرين في فلسطين منذ الأزل من اصدار هويّات لهم، يناور الفلسطيني صاحب السيادة في ملعب صغير أسموه لمّ الشمل، يناور ويناور سنوات طويلة ومديدة لينتظر بعدها أن يفرج عن بعضها ويذهب ليسجّل هذا إنجازًا عظيمًا للتاريخ طبعا، كل دولة في العالم أو شبه دولة أو حتى حكم ذاتي تقرّر في موضوع إقامة مواطنيها ومنحهم هوياتهم إلا عندنا يقرّر لنا الإسرائيلي وقت ما شاء وكيف ما شاء، ويقررّ مثلا مغنطة الفلسطينيين أي أرشفتهم في سجلّه الإلكتروني، نحن نترك مواطنينا كلّ ورأيه مثل العرب الشاردة، يطلبوننا للمقابلات فنذهب فرادى دون موقف من أحد، “كلّ واحد يخلّع شوكه بإيده” .
أوسلو وما فعلت بنا أوسلو، وكان من ملحقاتها اتفاقية باريس الاقتصادية التي تعد باقتصاد زاخر وزاهر فما كان منه إلا اقتصادا تابعا ذليلا خاضعا بكلّ تفاصيله، لا ينفكّ أبدا ولا يجوز فطامه بأيّ حال من الأحوال، الاستيراد والتصدير وعملة الشيكل والبضائع الإسرائيلية التي تجتاح قرانا ومدننا ومخيماتنا، وضرب الزراعة والمزارعين واكتساح خضرواتهم وفواكههم ودجاجهم وعجولهم لأسواقنا، ماذا أبقوا لاقتصادنا ومجالات تطويره، وماذا فعلنا نحن بأنفسنا؟
لقد نقلت العروس الشمطاء المتحوّلة الشعب الفلسطيني من حالة الدوران حول القضية والاشتباك الملحمي مع العدوّ المحتلّ، إلى حالة الدوران واللهاث حول الأشياء والارتهان للبنوك والاشتباك مع حياة جديدة مختلفة قليلا لكنها لم تنفكّ أبدا عن الاحتلال وبقي الاحتلال رابضا على صدورنا وبقيت الجزرة سيدة الموقف دون أن ترفع العصا عن رؤوسنا. لذلك فقد اعتبر البعض من المفكرين والمحللين أن أوسلو كان بمثابة النكبة الثانية التي ولّدت هذا الوضع البائس.
ومع ما تشهده فلسطين هذه الأيام وما تُنبؤ به الأيام القادمة فإن اتفاق أوسلو قد أكلت دودة الأرض منسأته وينتظر الانهيار الكامل بعد الانهيارات الجزئية الكثيرة التي انهارت فيه، العمليات التي نشهدها هنا وهناك تقود المشهد الى الانفكاك الكلّي من أوسلو وقريبا سينهار انهيارا كاملا، لنستعد جيّدا الى هذا اليوم القريب.