سؤال افتراضي لكنه ليس بعيد الاحتمال. السؤال هو: هل يمكن أن نستيقظ صباح ذات يوم لا نجد فيه أثراً للحرم القدسي الشريف، بما فيه المسجد الأقصى والصخرة المشرفة وكل ما هو قائم على هذه الأرض ومساحتها 144 دونمًا، وكأن الأرض انشقت وبلعتها؟
وماذا سيكون رد فعل الفلسطينيين والعرب والمسلمين؟ هل سيواجهون ذلك كالعادة، وعلى قاعدة «الله أعطى والله أخذ، وأن للبيت ربا يحميه»؟
قد يقول قائل إن هذا الافتراض ضرب من ضروب الخيال، بل الجنون فلن «تتجرأ )إسرائيل( على الإقدام على مثل هذه الخطوة، لأن ذاك كما يردد بعض المسؤولين، أو كما يأملون، سيقود إلى حرب دينية تحرق الأخضر واليابس، حرب لا تبقي ولا تذر، أو هكذا يأمل بعضهم، وهم يعرفون في قرارة أنفسهم أن هذه الحرب لن تقع ولن ترى النور، وأنهم عاجزون عن فعل شيء أكثر من الإدانات، وأحيانا يضاف إليها مصطلح «بأشد العبارات»، وقد يصل الغضب ببعضهم إلى حد قطع العلاقات الدبلوماسية والتجارية وغيرها إلى حين هدوء العاصفة.
ألم يجرب الإسرائيليون حظهم مرة ونجحوا فيها، وكان ذلك في 21 أغسطس/آب 1969 عندما أقدم سائح أسترالي متصهين، أو هكذا يقولون، اسمه دنيس مايكل روهان، على إشعال النار في المسجد القبلي، الذي التهم الحريق أجزاء مهمة منه، ومنبر صلاح الدين الأيوبي في المتحف الإسلامي في المسجد الأقصى المبارك، شاهد على هذه الجريمة النكراء، هذا المنبر الذي صنعه القائد نور الدين زنكي، وأحضره صلاح الدين الأيوبي عند فتح القدس عام 1187 ووضعه في الأقصى، ليظل شاهدا على أن القدس مدينة عربية إسلامية. وحينها اقتصرت ردود الأفعال العربية والإسلامية على بعض الإدانات اللفظية التي تكرر كل سنة في ذكرى الحريق. وأذكركم إن نسيتم بالمقولة المشهورة لرئيسة وزراء )إسرائيل( غولدا مائير غداة ذاك اليوم المشؤوم إذ قالت: «لم أنم طوال الليل، كنت خائفة أن يجتاح العرب والمسلمون )إسرائيل( أفواجا أفواجا ومن كل حدب وصوب، ولكن عندما أشرقت شمس اليوم التالي أدركت أن باستطاعتنا أن نفعل أي شيء نريده»، ومن فعلها مرة لن يتورع عن تكرارها. وهذا ما فعلوه على مدى سنوات الاحتلال من حفريات في أساسات الأقصى، وتغيير الوضع القائم «الستاتيكو» ولم يجدوا من يردعهم. بالمناسبة، حتى الآن لم يحاول أحد تفسير أو توضيح ما المقصود بالوضع الراهن، وماذا يسمح ولا يسمح به للمستوطنين. قد لا يصل الأمر إلى الهدم المباشر، على الأقل في الوقت الحاضر، ولكنه بالتأكيد سيتحقق في وقت ما لاحقا، إذا ما بقيت ردود أفعالنا على ما هي عليه، وإذا ما تواصلت الحفريات تحت الأقصى التي قد تعجل في انهياره.
اليهود ليسوا على عجلة من أمرهم وهم يتبعون سياسة الخطوة خطوة، وهم يفعلون بالحرم القدسي كما فعلوا بالحرم الإبراهيمي في الخليل الذي سيطروا عليه قطعة قطعة، بعد المجزرة التي ارتكبها المجرم الإرهابي باروخ غولدشتاين في 25 فبراير/شباط 1994، وأصبحت سيطرة المستوطنين وجيش الاحتلال عليه، كاملة إلى حد
منع أي إصلاحات فيه ومنع رفع الأذان. إنهم يعملون للاستيلاء الكامل على الأقصى خطوة خطوة، بعد أن استولت على غالبيته، بالرغم من أن هذا يتناقض مع الاتفاقيات والقوانين الدولية، التي نعتمد عليها كثيرا، والتي ضمنت حماية وحرية العبادة تحت الاحتلال، ورغم قرار منظمة اليونيسكو الأممية اعتبار الحرم الإبراهيمي صرحا إسلاميا خالصا، كما هو الحرم القدسي، ولكن لا حياة لمن تنادي واليهود يفعلون كما يشاؤون دون رادع.. والمسألة مجرد وقت لا غير. وبعيدا عن المبالغات والفرضيات ألا تظنون أن التطورات تسير في هذا الاتجاه، إنني كما أرى كيف سارت الأمور خلال العقدين الماضيين أو أكثر، خاصة في الفترة الأخيرة بصفتي متابعا لما يجري على الصعيد الفلسطيني، أعتقد بل أكاد أجزم أنه إذا بقيت الأمور على ما هي عليه، ولا يفعل الفلسطينيون والعرب والمسلمون ما يمكن أن يردع دولة الاحتلال، وبقيت ردود الفعل على الخطوات التهويدية، والترتيبات المتسارعة لإقامة الهيكل المزعوم في الأقصى، على ما هي عليه، وعلى هذا النحو والوتيرة، فإن الأقصى حتما سيواجه مصير الحرم الإبراهيمي نفسه في الخليل، الذي يقضم قطعة قطعة، بل ربما أسوأ، لأن دولة الاحتلال ومستوطنيها يخططون لإقامة الهيكل المزعوم في مكان الأقصى.
نعم، فلمن لا يتابع نكرر التذكير بأن سلطات الاحتلال قد قسمت الحرم زمانيا ومكانيا ويمارس اليهود فيه السجود الملحمي والنفخ في البوق، وهي محاولات لفرض وقائع جديدة في الأقصى، فماذا أنتم فاعلون يا عرب ويا مسلمون ويا فلسطينيون، والحديث عن قادتهم وزعمائهم، لتجنب وقوع هذه الكارثة غير التصريحات الرنانة والتحذيرات من أن «المستوطنين يدنسون الأقصى ويهددون بتهويد الحرم القدسي»؟ جملة أصبحت غير مفيدة وممجوجة، والتهديدات بحرب دينية لا تبقي ولا تذر ما عادت تجدي نفعا، وكنت أود استخدام تعبير أو مثل فلسطيني يستخدم في حالات اليأس ووصف التهديدات بأسوأ الأوصاف.. فلا المسلمون سيخوضون هذه الحرب ولا العرب. بالأمس القريب كان مجرد دخول جماعات استيطانية للأقصى يقيم الدنيا ولا يقعدها، ويعدون الدوس في ساحاته تدنيسا وأمرا مرفوضا وجبت مقاومته، وطالما وقعت مواجهات تنتهي برضوخ دولة الاحتلال وسلطاتها الأمنية وسحب المستوطنين.
ونذكر فقط بزيارة أريئيل شارون عندنا كان زعيما للمعارضة في صيف عام 2000 أي بعد فشل محادثات كامب ديفيد الثانية، وسرعان ما تطورت إلى معارك مسلحة انتهت بإعادة الجيش الإسرائيلي احتلال مناطق «أ» و«ب» في الضفة، أي أراضي السلطة الفلسطينية ومحاصرة الرئيس الراحل ياسر عرفات في مقره في المقاطعة في رام الله حتى استشهاده، وتدمير كل البنى التحتية التي بنتها السلطة. بعدها بسنوات بدأ المتطرفون من غلاة المستوطنين يدنسون باحات الأقصى يوميا، وبإشراف أمن الاحتلال وشرطته من دون ردود أفعال. ونجحت سلطات الاحتلال في تقسيم زيارات الأقصى زمانيا بعد قبول الجهات الرسمية الفلسطينية بالأمر الواقع، وهي الآن تسعى لتقسيمه مكانيا.
ليس هذا فحسب، بل يتحدث خبير فلسطيني في شؤون الأقصى عن مشروع يريد الاحتلال من خلاله إزالة خط الدفاع الأول عن الأقصى، خاصة من بلدة سلوان، وزرع نحو 25 ألف مستوطن في البلدة القديمة خلال ثماني سنوات، تمهيداً للانقضاض على المسجد الذي أصبح في عين العاصفة.
وحقيقة أن تصعيد المستوطنين تصرفاتهم الاستفزازية لمشاعر المسلمين من صلوات وطقوس تلمودية علنية وأناشيد ورقص داخل باحات المسجد، في ظل تفريغه من المصلين وعرقلة دخولهم إلى مسجدهم، هذه ليس أكثر من غطاء لما يجري أسفل الأقصى وحواليه، وهي التي قد تعمل على إضعاف أسواره وانهيار أساساته، عبر القيام بتفريغ المساحات الأرضية من أسفلها، وتساقط الحجارة من المسجد الأقصى وأسواره. وتشهد المنطقة الجنوبية والجنوبية الغربية للأقصى تساقطاً متكرراً للحجارة، وهذا سببه الأساسي محاولات الاحتلال النفاذ إلى داخل المسجد من الأسفل وإجراء حفريات في هذه المنطقة، فحسب دائرة الأوقاف فإن قطعا من الحجارة تتساقط من أعمدة في الأقصى، فيما لم تُعرف الأسباب بعد، والأخطر من ذلك أن شرطة الاحتلال تماطل في السماح لها بالتعامل مع هذه المسألة.
وتُجرى في محيط الأقصى مجموعة من الحفريات والأعمال التي وصفتها جهات مقدسية بـ”المريبة والغامضة” التي تقوم بها ما تسمى سلطة الآثار الإسرائيلية، خاصة من الجهتين الجنوبية والغربية الملاصقة للأساس الخارجي للأقصى (في منطقتي حائط البراق والقصور الأموية). وشدد الشيخ محمد حسين مفتي القدس، أن هذه الممارسات ستؤدي إلى إضعاف أساسات المسجد الأقصى المبارك وانهياره. وإذا لم يفعل الأردن بصفته المسؤول الأول عن الحرم شيئا لإنقاذ الأقصى، فإن مصيره سيكون كما ذكرت في مقدمة المقال الانهيار التام بين ليلة وضحاها، فمن المسؤول، الفلسطينيون أو الأردنيون أو العرب أو المسلمون؟ أو أن دماء الحرم القدسي ستضيع بين القبائل؟