انطلق قطار المصالحة الفلسطينية من العاصمة الجزائرية، بمشاركة نحو 14 فصيلا، لبحث إنهاء الانقسام السياسي وترتيب البيت الفلسطيني. وقد انتهى الأمر بعرض الجزائر خلال جولات المباحثات برؤية شاملة تخص كل جوانب الانقسام الفلسطيني، وحتى لا نكون قلقين، فقد جاءت الأنباء الأولية مبشرة ومطمئنة عن سير الجولة الرابعة، وأعتقد أنها الجولة الأخيرة للمباحثات التي تسبق التوقيع النهائي للاتفاق.
لا شك أن الأيام الأولى للقاءات والمباحثات التي خاضتها الجزائر مع الفصائل الفلسطينية في العاصمة الجزائرية كانت عصيبة، نظرا إلى صعوبة الموقف وفرص نجاحها المعلقة على قشة، حبست أنفاس مناصري القضية الفلسطينية، خوفاً من فشل جهود الوساطة الجزائرية لإنهاء الانقسام الفلسطيني وإتمام المصالحة التي راهنت عليها الجزائر منذ نهاية العام الماضي، في السادس من ديسمبر/كانون الأول 2021، فقد أعلن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون اعتزام بلاده استضافة مؤتمر جامع للفصائل الفلسطينية، ولاحقا استقبلت الجزائر وفودا تمثل الفصائل وفي مقدمتها حركة التحرير الوطني (فتح) وحركة المقاومة الإسلامية (حماس) للتوافق على “رؤية الجزائر” الرامية إلى إنهاء الانقسام الفلسطيني الداخلي.
والجدير بالذكر أن اللقاءات بين قيادة الحركتين قد توقفت بعد لقائهما الأخير في القاهرة في تشرين الثاني 2017، للبحث في تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق المصالحة 2017، وانتهى اللقاء بتفاهمات عامة لم تتضمن سوى الاتفاق على عودة الاجتماع مطلع شباط 2018، وهو اللقاء الذي أُجِّل بعد تجميد جهود المصالحة بسبب خلافات الحركتين على آليات تسليم كامل إدارة قطاع غزة للسلطة الفلسطينية، في المقابل عدم إبداء الأخيرة أي جدية بتطبيق بقية بنود الاتفاق مثل الشروع في إصلاح منظمة التحرير وتشكيل حكومة توافق وطني والانتخابات… إلخ.
وقد بدأت مرحلة جديدة من عدم الثقة بين الطرفين عملت على تعميق الانقسام أكثر فأكثر، بعد قيام رئيس السلطة بحل المجلس التشريعي الفلسطيني، بتاريخ 24/12/2018، تنفيذًا لقرار المحكمة الدستورية التي أعدها مسبقا على مزاجه الخاص، فجاء رد الحركة بعقد جلسة للمجلس التشريعي في غزة أعلنت فيها “نزع الأهلية السياسية عن عباس، وصولًا إلى تقديم حكومة الوفاق الوطني استقالتها برئاسة رامي الحمد الله، بتاريخ 29/1/2019، وتكليف محمد اشتية، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، بتشكيل حكومة جديدة، بتاريخ 10/3/2019، ليفتح ذلك صفحة جديدة من الخلافات الداخلية.
ورغم كل محاولات المصالحة السابقة التي باءت جميعها بالفشل من اتفاق مكة (2009) مرورا باتفاق القاهرة (2011)، واتفاق الشاطئ (2014)، واتفاق الدوحة (2016) وصولا إلى اتفاق القاهرة (2017) الأخير، نأمل بأن يكلل اتفاق الجزائر بعد توقيعه ليس بالنجاح فحسب، بل نراه يطبق على أرض الواقع بإنهاء أسوأ مرحلة مرت بها القضية الفلسطينية بعد النكبة، ولا ننسى دور الاحتلال في إفشال المصالحة، حيث، يشكل الموقف الإسرائيلي عاملا مهما في الضغط على الأطراف، نظرا لامتلاك دولة الاحتلال الكثير من أوراق القوة في الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث تستطيع ممارسة المزيد من التصعيد العسكري في القطاع ورفع وتيرة الحصار عليه، كما أنها تمتلك معظم أوراق اللعب في الضفة الغربية بسبب سيطرتها الأمنية على الأرض، وقدرتها على التحكم بالوضع الاقتصادي في الضفة بالكامل، وهذا الموقف الإسرائيلي كان واضحا منذ الإعلان عن قرب التوصل للاتفاق الأخير في عام 2017 ، حين قالت الحكومة الإسرائيلية إن على عباس أن يختار بين حماس وبين السلام.
على أي حال يدور السؤال في الشارع الفلسطيني المتشوق حقا للوحدة والمصالحة، عن فرص نجاح أو فشل اتفاق المصالحة بعد ذلك، لذا لا بد من ذكر أسباب اقتناع الأطراف الفلسطينية بالمصالحة وهي كالآتي:
أولا: إدراك قيادة حركة فتح أن الكرة الآن ليست في ملعبها، وأن الاتجاه نحو المفاوضات ضرب من الخيال لتنصل الاحتلال عن الاتفاقات مع منظمة التحرير، وأن استفرادها بالقرار الفلسطيني على مدار العقود السابقة غير مجدٍ.
ثانيا: خشية السلطة الفلسطينية من أن تطالها نار الثورة المسلحة المشتعلة في الضفة الغربية المحتلة فتحرق أصابعها، التي أحرجتها وعملت على تعرية نهجها بالتعاون مع الاحتلال، وكذلك الحال بالنسبة لقطاع غزة الذي أنهكه الحصار والحروب الصهيونية المتواصلة من جانب، وعقوبات السلطة المفروضة عليه منذ أوائل الانقسام من جانب آخر، وقد أدى إلى سوء الوضع الاقتصادي والمعيشي لسكانه، وهو ما يشكل ضغطا كبيرا مماثلا على حركة حماس، وقد يدفعها للتمسك باتفاق المصالحة، حتى لا تترك وحيدة في مواجهة أي عدوان إسرائيلي محتمل، كما حدث في الحروب السابقة.
ثالثا: الضغوط الشعبية الفلسطينية التي توجت بمظاهرات سابقة وتركزت على رفع شعار “الشعب يريد إنهاء الانقسام”، وهو ما شكل ضغطا كبيرا على حركتي حماس وفتح لإنجاز الاتفاق، ومن المتوقع أن يستمر الضغط الشعبي الفلسطيني باتجاه إنجاح الاتفاق أو تثبيته على الأقل خلال الفترة القادمة، مستفيدا من الزخم الذي تشكله الثورات الشعبية في أكثر من دولة عربية، بحيث أثبتت التجارب أن بقاء واستمرار الضغوط الشعبية، يؤدي في نهاية الأمر إلى الحفاظ على الإنجازات، وهذا ما حصل ويحصل في تونس ومصر، وهذا ما سيضعه الحراك الشعبي الفلسطيني في الحسبان لمنع فشل اتفاق المصالحة.
رابعا: فقدان الأمل بالوسيط الأمريكي المنحاز بامتياز للاحتلال الإسرائيلي، خاصة بعد اعترافها بالقدس عاصمته ونقل سفارتها، وتصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين من مضمون حق العودة بناء على قرار الأمم المتحدة رقم 194.
خامسا: إدراك أن المجتمع الدولي يكيل بمكيالين، مقارنة بما يقدمه من دعم وإسناد سياسي وقانوني وعسكري غير مسبوق لأوكرانيا، وعدم المساواة بالقضية الفلسطينية أكثر من ثمانية عقود من الاحتلال الإسرائيلي.
سادسا: التوقف الكلي في عملية السلام، والرفض الإسرائيلي لتقديم أي “تنازل” في قضية الاستيطان يؤدي إلى تحقيق اختراق في المفاوضات، وإعلان الولايات المتحدة أنها لن تمارس المزيد من الضغوط على (إسرائيل) لوقف الاستيطان.