ما تزال تتصاعد تفاعلات برنامج (ما خفي أعظم) الذي بثته قناة الجزيرة الفضائية يوم الجمعة الماضي، وعرضت فيه جانباً من المشهد المقاوم في الضفة المحتلة، وتحديداً ظروف نشأة وتطور كتيبة جنين ومجموعة عرين الأسود، إلى جانب تبيان التحديات التي تواجه عمل المقاومين وتعرقل تطوره.
اللافت في التفاعلات كان ردة الفعل المبالغ فيها من المستويات الإعلامية المحسوبة على حركة فتح والسلطة، وحالة الغضب التي اجتاحت هذا الفريق، بعد أن كشف البرنامج جانباً يسيراً من المعلومات المتعلقة بملاحقة أجهزة السلطة للمقاومين، ومحاولات تحييدهم بوسائل الترغيب والترهيب، وطبيعة الامتيازات والإغراءات المادية التي عُرضت على عدد من مقاتلي مجموعة عرين الأسود في نابلس مقابل تسليم سلاحهم وتخليهم عن المجموعة وانسحابهم من النشاط المقاوم.
المعلومات التي عرضها البرنامج ليست جديدة على أي متابع بدقة وتجرّد للمشهد الفلسطيني في الضفة الغربية وما يكتنفه من تشابكات وتعقيدات وتحديات، بل إن ما أبرزه البرنامج لا يكاد يذكر إذا ما قورن بطبيعة وحجم الجهد الذي تبذله أجهزة السلطة في ملاحقة كل أشكال النشاط المقاوم، وما يتضمنه من اعتقالات وتعذيب شديد للمقاومين، ومصادرة سلاحهم وأموالهم، وتقديم ملفاتهم للاحتلال، بمعنى أن الحديث هنا عن تعاون واضح بين جهاز الشاباك الإسرائيلي وأجهزة السلطة في إحكام السطوة على مجالات النشاط الوطني في الضفة الغربية، وإبقائه مشلولاً ومستنزفا، وهذا الواقع ليس جديداً، إنما بدأت تظهر بعض التجليات العلنية له بعد بروز ظاهرة التشكيلات المسلحة في مناطق شمال الضفة الغربية، وما أفرزته من تحديات أمام السلطة، أظهرتها عاجزة عن القيام بدورها الوظيفي في منع المقاومة وإجهاض محاولات تعافيها في مهدها، كما كان دأبها منذ عام 2007.
عندما تتحدث وسائل الإعلام الإسرائيلية عن تقصير السلطة في ملاحقة النشاط المقاوم فهي تدرك تماماً أن تركيزها على هذه الفكرة يستفز أجهزة السلطة وينشئ لديها ردة فعل تحاول من خلالها إثبات العكس، أي سيطرتها على الوضع الأمني في الضفة وإبقائه تحت السيطرة، فلا مجال هنا لفعل آخر بحكم الاتفاقات والالتزامات الأمنية التي أصبحت طوقاً غليظاً على رقبة السلطة، ولا يمكنها الانفكاك منها، حتى وإن أنكرت ذلك.
لكن المثير للاستهجان هو حالة التناقض المخزية التي تعيشها هذه السلطة وأجهزتها ومستوياتها الإعلامية، ففي الوقت الذي تحرص فيه على استغلال كل فرصة لضرب المقاومة واعتقال أفرادها وتجفيف منابعها نجدها تسارع إعلاميًّا وشعبيًّا لتبني شهداء التشكيلات المسلحة والتغني بهم، رغم أنها عمليًّا تساهم في إراقة دمائهم، بل إن معظم من قضوا برصاص الاحتلال خلال العام الفائت كانوا معتقلين سابقين لدى أجهزة السلطة الأمنية وتعرضوا لتعذيب شديد في سجونها، وكثير منهم كتبوا عن ذلك على حساباتهم على مواقع التواصل وأعلنوا براءتهم من هذه السلطة ونهجها، ومع ذلك لا تخجل السلطة وقيادة حركة فتح وإعلامها من التغني بهم والمتاجرة بدمائهم بعد استشهادهم.
الأنكى من ذلك، أن يثير كشف جانب من دور السلطة في تعطيل المقاومة كل هذا الغضب على المنصات الفتحاوية، وكأن المشكلة ليست في تفاصيل الدور نفسه وآثاره الخطيرة على واقع العمل المقاوم وعلى آفاق مواجهة الاحتلال، بل أن تتحدث وسائل الإعلام والناس به، حتى لو تم تقديم الحقيقة مجردة بدون تعليق، والواضح أن السلطة بأذرعها المختلفة تحاول التعمية على حقيقة دورها لأن هذا فقط ما يتيح لها أن تستمر في عملية الخداع والتضليل وادعاء حماية المشروع الوطني، والمتاجرة الرخيصة بدماء الشهداء وتضحياتهم.
من يمارس دوراً ويعرف أنه مخزٍ وغير مشرّف ينبغي أن يكفّ عنه، لا أن يحاسب الناس على كشفه والحديث عنه، ومن امتهن التدليس وخداع الجماهير عليه أن يدرك أن إخفاء الحقائق لن يستمر للأبد، لأن الإفك لا يدوم، ولأن الروايات المكذوبة المتهتكة لا تقنع غير المنتفعين والجهلة، ومن ربطوا مصيرهم بالمتعاونين مع عدوّهم وأعداء الحقيقة، أما عموم الجمهور وحواضن المقاومة فهم يدركون الواقع بدون تزييف، لأنهم يرونه ويعايشونه ويكتوون بناره.