لم يكن كثيرون وأنا منهم، ننتبه إلى أن يكون “الهجوم” العربي العرمرمي للتطبيع مع (إسرائيل)، له وجه آخر غير مرئي، يمكن أن يكون أحد أسباب بدء عملية تفكيك الكيان.
أو على الأقل إحداث الشرخ الأكثر خطورة في “القلعة” التي نشأت في آليات حفظ توازنها الداخلي على “وحدة الشعور بالخوف”.
واليوم وقد بدأ هذا الشعور يختفي، ظهرت أعراض “المرض الخطير”، وعبّر عن نفسه في جملة من الظواهر التي أثارت قلق “النخبة” في الكيان، فبدأوا يتحدّثون بصوتٍ عالٍ عن نهاية “الحلم” الصهيوني.
ووجد هذا الخوف تعبيرًا له في ساحات التظاهرات ضد حكومة “المجانين” الفاشية، المنتشين بالنصر، ليس على العرب فقط، بل على من كانوا “رفاق سلاح” و”إخوة” لهم من اليهود.
من يستعرض التاريخ الذي رافق قيام الكيان المعتدي يلحظ أن كل المعارك التي خاضها مع “الجيوش” العربية لم تكن حروبًا حقيقية بالمعنى الحرفي، فقد رافقتها أحداثٌ “مخفية”، جعلت الحروب ليست غير تنفيذ لسيناريوهات بائسة، هدفها إعانة “الدولة” المعتدية على أن تقوم لا منع قيامها، بل يرى كثيرون أن السند الحقيقي للمشروع الصهيوني كان النظام العربي الرسمي، ولولا هذا الإسناد لما قام للمشروع قيامة.
كانت حرب “النكبة” نكبة فعلًا بالمفهوم العسكري، فعبارة الـ”الجيوش السبعة العربية” التي دخلت الحرب لمنع إنشاء “الدولة العدو” كانت عبارة “كاذبة” من أساسها، لأن مجموع هذه الجيوش “عدديًا” لم يكن يصل إلى عدد عصابات اليهود ومليشياتهم، بمعنى أنها لم تكن “سبعة جيوش” أصلًا، بل ضم هذا التشكيل “ممثلين” عن هذه الجيوش، أما في ما يتعلق بالتسليح وخطط الحرب، فالأمر مثير للسخرية والحزن أيضًا، والحديث كثير ولم يعد سرّا، وفي المجمل، كانت “مسرحية” سيئة الإخراج، أعطت “شرعية” من نوعٍ غريبٍ للمشروع ليتحوّل إلى “دولة”.
وحرب “الأيام الستة” حسب التعبير الأثير لدى الكيان، وهو اسم مستوحى من الموروث الديني اليهودي، لم تكن “مسرحتها” أقلّ سخرية من حرب النكبة، فقد أنتجت “نكسة” مزلزلة، أعطت للمشروع نسغًا وجوديًا جديدًا، وأضافت له “أرضًا” واسعةً كي يتمدّد فيها، ويمدّ رجليه.
وما بين النكبة والنكسة، قامت حروب ومناوشات، لم تكن “جدّية” بما يكفي لتقليص “الحلم” الصهيوني، بل كانت سببًا إضافيًا للصق فسيفساء التجمّع الصهيوني، فصحيح أن تلك الحروب والمعارك في مجملها لم تكن قادرة (وربما لم تكن تريد) على لجم العدوان أو “هزيمته” لكنها كانت تمنح العدو شعورًا بأن هناك “خطرًا” وعدوًّا يهدّده، وهو شعور ضروري لإبقاء التجمّع الفسيفسائي أقرب إلى “المجتمع” الواحد.
طبعًا، رافق هذه المهزلة العربية الفادحة القضاء على أو تفكيك، أكثر وأكبر الجيوش العربية إخافة للكيان، والحديث هنا يطول عن كيفية التفكيك أو الحلّ، فثمّ أسباب كبرى داخلية وخارجية، حققت للكيان ما يريده، ورافقت هذه حركة تواصل مشبوهة سرّية وعلنية بين رموز تنتمي للنظام العربي الرسمي، وقادة الكيان ومؤسسيه، أمدّتهم بالقوة اللازمة لتمتين بناء “قلعتهم” أو “الفيلا وسط الغابة”، وهنا تحديدًا في هذا التعبير الأخير يكمن مفتاح التهديد الجديد الذي ينذر بتفكيك المشروع.
الفيلا وسط الغابة، هو وصفٌ أطلقته نخبة العدو على مشروع (إسرائيل) لكونها “قلعة ديمقراطية” وسط غابة الدكتاتوريات العربية.
واليوم بعد انقلاب أصحاب المشروع على “الديمقراطية” عبر ما يسمّونه “الثورة القضائية” والعبث بالفصل بين السلطات، هم يصيبون المشروع في مقتل.
وسبب هذا التحوّل الدراماتيكي في عقلية سدنة المشروع هو الشعور بزوال كامل الخطر من “العدو” العربي، فالحروب حسمت، ولم يعد الخيار العسكري مطروحًا أصلًا لدى أي دولة عربية، بل رافقه سباق عربي رسمي ليس لإقامة اتفاقات سلام لإنهاء مصطلح ما سمّي كذبًا “عدوًا” صهيونيًا، بل تنافس القوم في إنشاء مشروعات وتحالفات مع “عدو” الأمس. وبهذا ما يزال “اللاصق” الذي جمع أشتات اليهود في أرض فلسطين.
ولطالما سمعنا في ما مضى عبارة تقول إن خطر “السلام” أشد وأخطر على مشروع “القلعة” من أي تهديد عسكري، ويبدو أن المشروع الصهيوني وصل إلى هذه النتيجة اليوم، فهو يشهد نوعًا من “الحرب الأهلية الباردة” التي تنبأ بها كاتب هذه السطور بها في إحدى المقالات التي حملت هذا الاسم.