من جديد طفت على السطح قضية اغتيال الراحل الرئيس ياسر عرفات “أبو عمار”، الذي تُوفي في 11 نوفمبر 2004، بعد فترة من الحصار الإسرائيلي له في مقر المقاطعة برام الله.
والغريب في الأمر عدم تشكيل لجنة التحقيق إلا بعد مرور ست سنوات على اغتياله، والأكثر غرابة أن جثته لم تخضع للتشريح كالعادة المتبعة في الطب الجنائي لمعرفة أسباب الوفاة، خاصة بعد تكتّم السلطة على إظهار حقيقة مقتل عرفات، وهو ما زاد علامات الاستفهام حول قبول قيادة السلطة وحركة فتح بدفن جثمانه قبل تشريحه أو عرضه على أطباء متخصصين لمعرفة سبب وفاته.
وسط تقديرات غير رسمية تقول: إنه مات مقتولًا بمادة “البولونيوم” المشعة، وتقف على رأسها قناة الجزيرة الفضائية القطرية التي كشفت في تحقيق استقصائي لها عن إمكانية وفاة عرفات بتلك المادة، استنادًا على تقرير معهد “لوزان السويسري” للتحاليل الإشعاعية، بعد أن أخذ خبراء روس وفرنسيون وسويسريون عيّنات من جثمان عرفات، بعد فتح ضريحه برام الله؛ لفحص سبب الوفاة في 2022.
من جديد نشر موقع أيقونة الثورة المقرّب من حركة فتح فيديو يظهر خبايا وفاة طبيب الأسنان الخاص بالرئيس عرفات سعيد درّس، وبحسب الفيديو فإن الطبيب شارك في خلع ضرس العقل للرئيس عرفات أثناء حصاره في المقاطعة، إذ استغلّ تلك الظروف لدسّ السّم للرئيس عرفات دون علمه.
وبحسب الفيديو فإن لجنة التحقيق الخاصة بوفاة عرفات توجه أصابع الاتهام مباشرة لحسين الشيخ عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، ومحمود عباس رئيس السلطة وحركة فتح، فالأوّل تربطه صلة قرابة بطبيب الأسنان وهو ابن خاله، وهو الذي قدّم الطبيب لعرفات، وأما الثاني فهو من أدخل كرسي الأسنان إلى المقاطعة.
ولا أحد ينكر حقد أرئيل شارون الدفين على عرفات وكان آخرها عملية السور الواقي وحصاره، إذ تدهورت فيها صحته، فقد ذكر عرفات في مقابلة مع صحيفة يديعوت أحرونوت في 17 نوفمبر 2003، أن شارون اعترف بأنه حاول قتله 17 مرة في بيروت، وبغض النظر عن دقة هذا الرقم، لكن لا يمكن إخفاء وقوف شارون بطريقة أو بأخرى وراء جريمة مقتل عرفات.
لقد كشفت الوثائق التي نشرتها “صفا” على حلقات تفاصيل ما تحدثت به قيادات السلطة وحركة فتح للجنة التحقيق، التي شكّلت برئاسة اللواء توفيق الطيراوي في أكتوبر 2010، فهذا بسام أبو شريف مستشار عرفات السياسي يتهم محمود عباس بضلوعه في قتل عرفات لقوله: “أكثر اللحظات التي رأيت فيها أبو عمار متضايقًا من محمود عباس كانت بعد ارتباط الأخير باتصال مستمر مع الإسرائيليين والأمريكان ويدير معركة صلاحيات، لدرجة استخدام عرفات تعبير كرزاي فلسطين”.
إن مقتل الرئيس عرفات مثّلت صدمة كبيرة في الشارع الفلسطيني وأثارت الشكوك حول هذا المرض الغريب الذي لم يمهل أبو عمار إلا أيامًا معدودة قبل أن يجهز عليه، وتكوّن لدى الفلسطينيين إجماعٌ كبيرٌ على أن وفاة عرفات لم تكن طبيعية مطلقًا، بل كانت اغتيالًا مخططًا له ومدبرًا لإنهاء حياة الختيار، لإخلاء الساحة منه.
اللغز الكبير هو ما جاء في بيان الطيراوي في الأوّل من نوفمبر الماضي، الذي أكّد فيه أن وثائق تحقيق تتعلق بوفاة عرفات “تمت قرصنتها وتسريبها”، ونستطيع القول: وفقًا للدلائل المتكشفة والحقائق البائنة تباعًا في إثر الوفاة مبهمة الأسباب للرئيس عرفات، أن الأمر أصبح واضحًا وضوح الشمس، ولم يعد الأمر سرًّا تخفيه السلطة، كما فعلت منذ اللحظة الأولى في عدم تشريح جثة عرفات والإسراع في تشييع جثمانه، لتُنهي بذلك الجدل الحاصل وتفوّت الفرصة على أيّ محاولة للبحث عن الحقيقة أو تقصي أسباب مقتله، وتبعد أصابع الاتهام عن المجرمين ليكونوا في طيّ النسيان مع مرور الوقت، بدليل قتل طبيب الأسنان الشاهد على الجريمة، وقرصنة محاضر التحقيق الخاصة بالقضية.
تبقى قضية رحيل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات محطة لاستذكاره واستعراض تضحياته ومواقفه وإسهاماته الوطنية، فمن المستهجن أن تُخفى عن الشعب الفلسطيني ما وصلت إليه اللجنة من نتائج، إلا إذا كانت هناك مصلحة في إخفاء تلك النتائج، إذ تحوّلت قضية اغتيال عرفات لحدث وطني يَهم كل فلسطيني، رغم كل المحاولات من عدة أطراف في السلطة بالتعتيم والتشويش وقرصنة المعلومات الدالة على مرتكب الجريمة، وإبعاد أصابع الاتهام عن نفسها باستغلال المناسبة والتسويق على أنها إرث الختيار، ومحاولة تحويل الالتفاف الجماهيري والشعبي حول ذكرى الزعيم الراحل لصالحها ولدعم توجهاتها ومواقفها، لكن بعد أن تُكشف الحقائق حول مقتل عرفات لم يبقَ بعد هذه المدة الطويلة من الزمن -بسبب تكتم السلطة على الحقائق- إلّا أن يُقدّم الجناة للعدالة والقصاص.