هل رأيت سؤالاً واحداً يتوخّى إجابة واحدة، يعبر ملايين الناس في مكان واحد، في وقت واحد؟!
هذا السؤال، يبدأ يعبر الناس، يلفّهم، يجمعهم، ينظمهم، يوحّد وجهتهم قبل رمضان بأيام، وكأنّ الملايين الثلاثة من سكّان الضفّة الغربية لا همّ لهم، على عتبات هذا الشهر، سوى الوصول إلى المسجد الأقصى. يصير السؤال عن السبيل للوصول إلى المسجد أكثر إلحاحاً مع الدخول في الشهر، وبعد كلّ جمعة منه، يتفحّص الممكنات، وينظر في وعي كلّ واحد إلى تجارب سابقيه، ممّن أمكن له الوصول إلى المسجد، كيف وصل إلى المسجد؟ ما السبيل للوصول إلى المسجد مراغمة، مهما كان الثمن المتوقع؟!
كلّ فلسطيني ذكر في الضفّة الغربية، دون الخمسين سنة لا يمكنه الوصول إلى المسجد إلا بتصريح خاصّ، هذا التصريح ممنوع عن مئات آلاف الفلسطينيين، ومن كان فوق الخمسين عليه أولاً أن يكون خالياً من المنع الأمني، الممنوعون أمنيّاً هم أيضاً بمئات الآلاف. هذه هي بالضبط التسهيلات التي تمنحها “إسرائيل” للفلسطينيين في الضفة الغربية للوصول إلى المسجد الأقصى في رمضان. ولما يكون الحال كذلك، يمكنك أن تتوقع أن هناك مئات الآلاف من الفلسطينيين، يسكنون في محيط القدس، لا يفصلهم عن المسجد إلا بضعة كيلومترات ولا يستطيعون قطع الحواجز (التي صارت تسمّى معابر) للوصول إلى المسجد، منهم كاتب هذه السطور، الذي يعيش في قرية كانت دائماً ضاحية من ضواحي القدس!
في معركة “السيادة” على القدس فعل الإسرائيلي الشيء الكثير، ميّز مقدسيين ببطاقة هوية، ليست في مضمونها القانوني أكثر من وثيقة إقامة، ثمّ حرم مقدسيين آخرين، هم في الغالب ممّا باتت تسمّى ضواحي القدس، من هذه البطاقة.
هكذا صار هناك “قُدسي” و”ضفاوي”، بالرغم من أنّ هذه المنطقة التي سمّيت بالضفة الغربية أثناء الحكم الأردني لها من بعد النكبة؛ كانت دائماً الفضاء الجغرافي والديموغرافي للقدس
في معركة “السيادة” على القدس فعل الإسرائيلي الشيء الكثير، ميّز مقدسيين ببطاقة هوية، ليست في مضمونها القانوني أكثر من وثيقة إقامة، ثمّ حرم مقدسيين آخرين، هم في الغالب ممّا باتت تسمّى ضواحي القدس، من هذه البطاقة. هكذا صار هناك “قُدسي” و”ضفاوي”، بالرغم من أنّ هذه المنطقة التي سمّيت بالضفة الغربية أثناء الحكم الأردني لها من بعد النكبة؛ كانت دائماً الفضاء الجغرافي والديموغرافي للقدس. ثم لم يكتف الإسرائيلي بذلك، بل ظلّ يكبّر ممّا يسميه “القدس الكبرى” بالمستوطنات والمشاريع الاستعمارية حتى فصلها عن ذلك الفضاء، ولأنّ المسجد الأقصى عنوان هذه المدينة، بقي يدفع نحو تكريس “سيادته” عليه، فبالرغم من الاختلاف بين الصهيونية الدينية والصهيونية العلمانية حول استباحة المسجد يهوديّاً، فإنّ قدراً مشتركاً بينهما يوفرّ مساحة للاتفاق، يمكن اختصارها بكلمة السرّ التي هي “السيادة”.
السيادة.. الجرح الاستعماري النازف غصّة ومرارة، يعبّر عن نفسه في شعار يضمر اليأس، بقدر ما يتظاهر بالبأس: “القدس العاصمة الأبدية والموحدة لدولة إسرائيل”. أيّ دولة في العالم تصرّ على التأكيد على وحدة عاصمتها وأبديّتها، سوى هذه المستوطنة التي تسمّي نفسها “دولة إسرائيل”؟! لا يمكن لدولة أن تشعر بالقلق على حقيقة عاصمتها، إلا إذا كانت هذه الدولة هي في حقيقتها مستوطنة معسكرة. هذا الشعار يعود يلحّ على ذاته، وعلى وعي الهاذين به، إذا طارت طائرة ورقية بالعلم الفلسطيني في سماء القدس، أو إذا تعاظمت جنازة شهيد في معاندة منها لإجراءات المنع التي يفرضها الإسرائيلي على جنازات الشهداء في القدس، إلا أن مئات الآلاف الذين يفرضون أنفسهم في المسجد الأقصى كلّ عام طوال رمضان، يبقون ملح الأرض الفلسطينية الأكثر استثارة لجرح “السيادة الإسرائيلية” النازف بالغصّة والمرارة!
لو لم تكن فلسطينيّاً وتجولت في شوارع القدس، فإنّك لن تحتاج إلى أيّ رصيد معرفيّ سابق؛ لتميّز الأصليّ من الطارئ، ابن البلد من الغريب، الحجارة والبيوت والشوارع الباقية على براءتها الأولى من تلك المزروعة على صورة ذلك الطارئ. هذا الطارئ، يتصاعد فيه الشعور بالغربة، فيتوتّر فيه “جرح السيادة”، ويزداد نزفاً بالغصّة والمرارة، ويكابد على عقله ارتباك الوعي الاستيطاني الاستعماري التأسيسي، الذي زعم أوّل الأمر أنّ هذه البلاد كانت خلاء من البشر في انتظاره بعد تيه ثلاثة آلاف عام، ليجد فيها هذا الصمود كلّه مجبولاً بالبلاد، تربة وطقساً ومسجداً ولوناً وملامح، صورة أصيلة طبق الأصل عن البلاد الممتلئة به، في تداخل فريد بين الأصل والصورة. الفلسطيني أصل البلاد وصورتها، وهي أصله وصورته، فما هذا الغريب؟! تشوّه يستطيل على جمال الموقف، موقف الأصل والصورة، فلا هذا الغريب من الأصل، ولا هو من الصورة، فماذا يفعل والتوتر والارتباك قدره، وحسم معركة “السيادة” دونها الأصل والصورة في تداخلهما؟ لا البنية الاستعمارية المادية، ولا وجوده البشري الاستعماي، بقادرين معاً على استبدال حقيقة الموقف، وخلق تداخل جديد من الجمال بين أصل وصورة أخرى، يبقى غريباً ويبقى بديله المقحم محض نتوء شائه!
هكذا يقتل، ويضرب، ويعتقل، ويدفع أكذوبته في صورة بشر لاقتحام المسجد، لكن المسجد لمن؟! دولة تملك كلّ شيء لا يمكنها دخول المسجد إلا خلسة، أو برفقة النووي! في الحالة هذه، تتضح تلك العلاقة المتداخلة بين الأصل والصورة، الأصل الذي هو صورة، والصورة التي هي أصل، تداخل كامل، نسيج واحد، علاقة عضوية، بين المسجد والمعتكفين فيه، اعتكاف رغماً عن النتوء الشائه، النتوء النابت من الكذبة والدبابة، والحامل على كتفه النووي.
يفرض النسيج الطبيعي، الأصيل، حضوره حيثما وُجد الفلسطينيون، فينطبق الفلسطيني على مساحة المسجد كاملة، ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان. هكذا يكتمل الموقف، فعلى كل حجر في الـ144 دونماً ترى فلسطينيّاً
الكذبة وجه الوقاحة، لكن الأمر ينطوي في نفسه على مفارقة، فالكذب وليد الجُبن. الكذبة المؤسِّسة للمستوطنة على فوهة الدبابة، تُظهر صلفاً وتُضمر جبناً، والمضمَر لا بدّ وأن يَطبع الظاهر بملامحه، وهكذا فالصمود الفلسطيني، الصمود الخالي من كلّ شيء، إلا من الحقيقة، الحقيقة الكاملة، حقيقة الأصل والصورة المتداخلين، حقيقة النسيج بين الخيط الفلسطيني الآدمي وقماشة الأرض والمسجد، هذا الصمود، بذاته المجرّدة، يكشف الجُبن على ملامح صلف المستوطنة، ويحني النتوء الشائه.
إذ يلتفّ الفلسطينيون في كلّ مكان، في غزة ولبنان وغيرهما، حول الصامدين في المسجد، لتكتمل في الظهور حقيقة الأصل والصورة المتداخلين، ويفرض النسيج الطبيعي، الأصيل، حضوره حيثما وُجد الفلسطينيون، فينطبق الفلسطيني على مساحة المسجد كاملة، ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان. هكذا يكتمل الموقف، فعلى كل حجر في الـ144 دونماً ترى فلسطينيّاً ولا ترى الحجر، لأنّ الوجود الفلسطيني في المسجد وجود نسيج، ولأنّ الفلسطيني صورة الحجر، والحجر صورة الفلسطيني.. هكذا تكتمل غربة المستوطن، ويتوتر جرحه أكثر، وينزف، ينزف أكثر، غصّة ومرارة!