في حين كان يرسل الاحتلال تهديداته شمالًا نحو لبنان وجنوبًا نحو غزة ويتجهز عسكريًا وأمنيًا متوقعًا عمليات من إحداهما، أتته الضربة من حيث لا يحتسب، من جندي فدائي مصري انطلق من سيناء مصوبًا رصاصاته نحو قوات الاحتلال الإسرائيلي ليقتل 3 جنود ويصيب آخرين قبل أن يرتقي شهيدًا، وقد تضاربت الأنباء والتصريحات في الساعات التي تلت الواقعة من كلا الجانبين الإسرائيلي والمصري عن الأسباب والطريقة التي اتبعها المنفذ -أفضل عدم الدخول في تفاصيلها- لعدم دقة المعلومات الواردة من الاحتلال الذي يتكتم على تفاصيل العملية، وعلى العموم أيًّا تكن الروايات فإن النتيجة جاءت صادمة ومؤلمة للاحتلال، في الوقت الذي كان يشيد بالتعاون الأمني على الحدود مع الجانب المصري، وأنه يعيش في أجواء تنعم بـ“سلام بارد” لعقود طويلة، لكن هذه المرة أثبت الجندي المصري من جديد ضعف جنود الإحتلال وهشاشة منظومته الأمنية، إذ إنه باغت جنود الاحتلال برصاصاته القاتلة قبل أن يباغتوه، وبذلك يمكن القول أن الجهوزية التي يدعيها الاحتلال هي سراب، خاصة أن هذه العملية الفدائية جاءت بعد أيام قليلة من تنفيذ الاحتلال واحدة من أكبر المناورات العسكرية في تاريخه لمحاكاة شن حرب على عدة جبهات، شاركت فيها كل أذرع الجيش والنخب، وكان الهدف منها اختبار مدى جاهزية قوات الاحتلال للدخول في معركة طويلة على أكثر من جبهة أسماها “اللكمة القاضية”، إلا أن “اللكمة” الحقيقية أتت إليهم من الجندي المصري، وكانت هذه العملية اختبارًا أوليًا لمدى جهوزية قوات الاحتلال بعد خروجها من المناورة العسكرية التي داسها هذا الجندي بمفرده.
ففي حين كان تركيز جيش الاحتلال الإسرائيلي في المرحلة الأخيرة منصبًا على الإعداد لتوجيه ضربة عسكرية محدودة أو حرب وقائية على الجبهة الشمالية، أو ما يسميه بـ“الخطة الخماسية” التي تمحورت حول رفع الجهوزية والقدرات والتدريب على حرب متعددة الجبهات، ردًّا على التطور الخطير في نظره لإجراء حزب الله اللبناني مؤخرًا مناورات عسكرية في الجنوب، وإن كان هذا هو السبب، لكن السبب الأكثر قلقًا لدى الاحتلال هو القصف الصاروخي الذي تعرضت له (إسرائيل) في آنٍ واحد من عدة جبهات: من جنوب لبنان ومن قطاع غزة ومن الجولان السوري، بما عرف بوحدة ساحات المقاومة، وهو ما يقلق الاحتلال، من احتمالية أن تكون الحرب القادمة متعددة الجبهات لمحور المقاومة التي قد تندلع في حال حدوث تصعيد أمني كبير، سواء في غزة أو القدس أو الضفة الغربية أو في حال أقدمت على تنفيذ عملية أمنية أو عسكرية خارج فلسطين.
الاحتلال يخشى تعدد الجبهات، لذا حاول في عدوانه الأخير اختراق الغرفة المشتركة للمقاومة لتفكيك الروابط بين التنظيمات، بهدف الاستفراد بواحدة تلو الأخرى، لماذا؟ لأنه جرب قدرات المقاومة في معركة “سيف القدس” 2021، التي لقنته درسًا قاسيًا لم ينسه، حين أذاقته أصناف الصواريخ التي دقت عمقه وأطرافه، وخرج من الحرب مذمومًا مدحورًا.
الغريب في الأمر أن الاحتلال يخطط حاليًا -وهو ما كان الحديث عنه بعد هزيمته في المعركة الأخيرة “ثأر الأحرار”- لتسديد ضربة متعددة الجبهات، والسؤال الذي يطرح نفسه هو: عن أي جبهات يتحدث الاحتلال؟ إذ إن الجبهات في تزايد بعد ظهور جبهة كانت بالنسبة له في طي النسيان من الجبهة الجنوبية، وكان يعتبرها الأكثر أمنًا، لكن عملية “العوجة” صباح السبت الماضي جاءت لتذكره بالجرح القديم قبل 38 عامًا لمقتل سبعة إسرائليين على يد الجندي المصري سليمان خاطر، في منطقة نويبع بسيناء عام 1985.
إن ساحات المواجهة مع الاحتلال لم تعد الآن ترتبط بزمان أو مكان أو حدود أو ساحة أو جبهة، بمعنى أن ساحة الضفة وغزة هي اليوم جزء من طبيعة الصراع مع باقي الجبهات، لذلك نحن الآن في مرحلة نستطيع أن نقول إننا في معركة مفتوحة دون تحديد المكان والزمان للهدف، فلربما أراد الجندي إحياء ذكرى “النكسة” على طريقته الخاصة، أو وقف انتهاكات الاحتلال للحدود المصرية بتجاوز جنوده الخطوط الحمراء، وعلى ذكر الحدود فعادةً ما يكون الاحتلال دائم الاختراق لحدود الدول المجاورة لفلسطين بحجة الأمن، والحقيقة أن الاحتلال لا يؤمن بترسيم الحدود لتكون له مرتعًا، ومن باب التذكير -بحسب مصادر إسرائيلية- فإن الاحتلال يدفع إلى الحدود مع مصر البالغة نحو 200 كلم بقوات مختلطة: رجال ونساء، وعلى الحدود مع الأردن تنتشر المجندات فقط، بالرغم من أن الحدود مع الأردن هي الأطول، وتبلغ 335 كلم، وأما على حدود غزة، التي تبلغ حوالي 60 كلم، تتمركز فرقة عسكرية كاملة مكونة من ثلاثة ألوية وكتيبتا مدرعات، فضلًا عن طبقات من منظومات الإنذار المبكر، والجدار الأمني الهائل وغيرها، ومثلها على الحدود اللبنانية.
الاحتلال ما زال يعيش هاجس الحرب من عدة جبهات، في حين لم يكن مهيئًا لخوض حرب مع عدة ساحات بسبب الوضع الداخلي، بسبب تآكل قوة الردع، وكل ما يتحدث عنه من مضادات للحماية، وكل أجهزة الاستطلاع والرصد ثبت فشلها، حتى القبة الحديدية أخرجتها صواريخ المقاومة عن الخدمة، ويبقى الدرس المستفاد من عملية “العوجة” أن الحدود لا تفرق الشعوب، فإذا كان الاحتلال قد ضمن أمنه مع هذه الجهة أو تلك، لا يعني أن الحدود ستبقى آمنة إلى الأبد، فما يحدث في القدس من تهويد وانتهاك لحرمة الأقصى والقتل الممنهج في الضفة وغزة، لا يرضي الشعوب العربية، مهما تعاقدت حكوماتها وطبعت مع الاحتلال.