العادة الإعلامية، بملء الفراغات والمساحات بالأسئلة الكثيرة عن الحدث المحدود.. معروفة، وهو أمر من ماهيّة هذه الصنعة، بحيث إنّه لا يمكننا القول بإمكان تجرّد هذه الصنعة من هذه العادة، وإلا لتغيّرت ماهيتها. هكذا بدا الأمر مع حادثة الشهيد، المجنّد المصري محمد صلاح إبراهيم، عند معبر العوجا، بين فلسطين المحتلة المُقيّدة بالاسم الصهيوني عليها “إسرائيل”، وبين مصر، حينما أكثر الإعلام من السؤال عن الدلالات، وإن كانت هذه الحادثة فاتحة لتحوّل كبير!
بالنسبة للإعلام الفلسطيني، المنتمي لخيار المواجهة مع العدوّ، لديه تقليد عتيق، من بدايات ظهور المقاومة الفلسطينية، تتوارثه الأجيال بنحو ضمني، وهو تضخيم الحدث، وبناء معمار كبير عليه من التصورات الذهنية، عن الراهن أو عن المستقبل القريب. يتعلّق ذلك في جانب منه بالوظيفة التعبوية للإعلام، وهي وظيفة لا تتّجه للجمهور العامّ فحسب، بل تتجه لأصحاب مشروع المواجهة أنفسهم، بتعزيز قناعاتهم بصحة الخيار والقدرة على الاستمرار فيه والمستقبل المفتوح دائماً على الإمكان المختلف، إمكان التحوّل والإنجاز. وهنا قد يقع الخطاب في مشكل الارتباك بين الحاجة التعبوية ومنح الأحداث قدرها من الاحترام، وبين الدقة في صياغة الوعي العامّ والذاتي.
على أية حال، بداهة، فإنّ حادثة الشهيد المصري محمد صلاح، لا تنمّ عن أيّ تحوّل بأيّ معنى، ولا تندرج فيما بات يسميه بعض الفلسطينيين “وحدة الساحات”. والمؤكّد، أنّ الحدود بين فلسطين المحتلة ومصر لن تتحوّل إلى جبهة، على الأقل، في وقت قريب. لكنّ ذلك كلّه لا يعني أن الحدث، على محدوديته، لم يكن مهمّاً ولا دالّاً. أهمية الحدث، جاءت من الكيفيات التي تعاطى بها الطرفان المعنيان به؛ المؤسسة الصهيونية بأجهزتها ومستوياتها المتنوعة، والنظام في مصر.
أوّل ما يظهر من أهمية لهذه الحادثة، في كشف، لا العلاقة والتنسيق بين الطرفين فحسب، ولكن أيضاً الوقائع والترتيبات الأمنية في هذه المنطقة، سواء النقب داخل فلسطين المحتلة، أم سيناء. فبالرغم من العلاقات الأمنية الوثيقة بين الطرفين، والتزام الجانب المصري بما ترتّب عليه في اتفاقية كامب ديفد، وتقيّده بتقسيم تلك الاتفاقية سيناءَ إلى ثلاث مناطق، فضلاً عن منطقة رابعة داخل حدود فلسطين، ومن ثمّ الاكتفاء بأعداد محدودة من القوات منصوص عليها وعلى طبيعتها وعلى تسليحها في الاتفاقية، بما يحوّل سيناء إلى عمق استراتيجي لدولة الكيان الصهيوني، فإنّ “إسرائيل”، التي أكّدت بهذه الاتفاقية أن مصر طرف محتمل العداء في أيّ وقت، لم تكتف بذلك وإنّما عزّزت أدوات الرقابة الأمنية، من مناطيد وطائرات ومجسات وأبراج مراقبة، ليكون حديثها الآن عن الأسباب التي لم تكشف بها هذه الأدوات سير الجندي، والتحقيقات والعقوبات المترتبة على ذلك.
لا يعود الهلع الإسرائيلي إلى حجم الخسارة (ثلاثة جنود)، ولا إلى الخشية من تحوّل في الموقف المصري؛ “إسرائيل” مطمئنة إلى ذلك، إلى درجة أنّ الحديث عن تحوّل أقرب إلى النكتة، ولكنّها تشير إلى الهاجس المركّب في بنيتها الذهنية، والممتد في عروقها الاجتماعية، والساري في أعصاب مؤسّستها الأمنية والعسكرية والسياسية، من القلق الوجودي، والتحفّز الأمني المستمرّ، فأيّ حادثة من مكان غير متوقّع، تعبّئ “إسرائيل” بالتوتّر العالي، وتقذف فيها قلقاً محموماً. ولأجل ذلك، ومنذ تأسيسها، لم تركن إلى الشروط الدولية التي أوجدتها، لاحتمال تغيّر هذه الشروط، وإنّما سعت لتعزيز أسباب البقاء الذاتي قدر الإمكان، وكان من جملة ذلك السلاح النووي، والتفوق العسكري والتقني، وتعزيز أدوات الرقابة والضبط على الحدود، ومدّ جسور التطبيع مع النظام الإقليمي العربي دون حلّ القضية الفلسطينية. وفي حين أنّها حقّقت نجاحات واضحة، في تطبيع علاقاتها مع هذا النظام، إلى درجة التنسيق الأمني الكثيف في أقلّ الحالات، إلى التحالف المعلن في أعلاها، كما حصل في موجة التطبيع الأخيرة، فإنّها باستمرار لا تركن إلى ذلك، وتتوجّس من مفاجآت غير متوقعة، من أيّ مكان في محيطها.
لم يقتصر الجهد الإسرائيلي، في الإحاطة بالحادثة، على الخشية من تحوّلها إلى عامل إلهام جديد لأعداء “إسرائيل” المعروفين، والأكثر إصراراً في البحث عن منافذ جديدة لاستهدافها، ولكنّها، تمدّدت -أي “إسرائيل”- إلى الداخل المصري، من خلال تدخّلها في التحقيقات التي تجريها الجهات المصرية المسؤولة.
أرادت أولاً أن تتأكد إن كانت قوّة ما منظمة عبّأت هذا الجندي بعقيدة قتالها (أثار اهتمامها وجود مصحف مع الجندي)، وموّلته وسلّحته، ممّا يعني، بالدرجة الأولى، لو صحّت هذه الافتراضات، اختراقاً خطيراً من الجبهة الغربية، يتمثّل في عدوّ جديد غامض للأمن الإسرائيلي، من شأنه أن يتجلّى في حوادث مماثلة، لكن لا يقلّ عن ذلك أهميّة؛ هذا الدلال الإسرائيلي، في صورة نفوذ قاس يخترق ما يشاء، بالتدخل والأمر، الأمنَ العربيَّ المحيطَ بفلسطين، على هذا النحو الذي كشفت عنه الحادثة.
في المقابل، يأتي النفي المصري الرسمي للدوافع الفدائية والقومية والدينية، للجنديّ، منسجماً مع موقف النظام التاريخي، منذ توقيع اتفاقية كامب ديفد، بإنهاء العداء مع “إسرائيل”. يرغب النظام بالقول إنه لا يوجد ولا حتى جنديّ واحد معاد لـ”إسرائيل”، لكن لا يخلو الأمر من موقف اعتذاري ومرتبك تجاه “إسرائيل”، في حين كانت الإجراءات باعتقالات الدوائر المحيطة بالشهيد للتحقيق، والبحث في دوافعه، والبدء في إجراءات عقابية للجهات الأمنية ذات الصلة بفحص الجنود (المؤهّلين) للعمل في سيناء وعلى حدود فلسطين المحتلّة، إذ فشلت تلك الجهات في التنبّه لتوجّهات الجنديّ، بالرغم من كتابته على صفحته على موقع فيسبوك ما ينمّ عن تلك التوجّهات والتي منها الإيمان بالقضية الفلسطينية. يعني ذلك، أن المتعاطف مع الفلسطينيين لا يصلح لحراسة الحدود المصرية مع “إسرائيل”!
جاءت عملية الجندي محمد صلاح، في الذكرى السادسة والخمسين للهزيمة العربية المذلّة، فيما بدا للنظام الرسمي العربي تسميتها بـ”النكسة”. كانت هذه الهزيمة بوابة إطالة عمر “إسرائيل” في المنطقة، والقنطرة نحو تطبيع علاقاتها مع النظام الإقليمي العربي، وتحريف حقيقة القضية الفلسطينية، من كونها بدأت في العام 1948، أي من كون جوهر القضية في الوجود الإسرائيلي، إلى قضية تصالح على أراض احتُلّت تالياً.
محمد صلاح، بوصفه جنديّا مصريّا، انتهى تعليمه عند المرحلة الإعدادية، عمل في النجارة، ونشأ في ظلّ حالة غير مسبوقة من التردّي العربي، وتحوّل سياسات التطبيع نحو التحالف المعلن، وتحطيم الحركة الجماهيرية العربية، بما في ذلك حركات المقاطعة ومقاومة التطبيع.. بعمليته التي كانت العملية الحدودية الأولى منذ ثلاثة وثلاثين عاماً، يؤكّد أنّ الأمر بالنسبة لـ”إسرائيل” أعقد مما تظنّ، وبالنسبة لنا أنّ فلسطين أعمق حضوراً في الضمير العربي، مهما أجرى النظام الرسمي العربي من مياه أسفل جسور العرب!