مخيم جنين بعد معركة نيسان-أبريل 2002 كان مادة طغت على التغطيات الإعلامية، وألهم صناع الدراما (أفلام ومسلسلات) والباحثين والكتبة، وروائيين تفتحت قريحتهم فكتبوا عن المخيم كثيرا، بل إن معركة المخيم تلك كانت موضوعا ومحورا لأطروحات دراسات عليا في أكثر من جامعة فلسطينية، وغير فلسطينية.
ومع تقادم السنين طغت أحداث وأماكن أخرى على نشرات الأخبار، وانشغل أهل المخيم بحياتهم وحاولوا الحياة ما استطاعوا إليها سبيلا، يلملمون الجراح ويذهبون إلى أعمالهم ودراستهم، يتفقون ويختلفون، ويتشاجرون ويتصالحون، يتزوجون وينجبون، غير ناسين ما جرى؛ فقد دفعوا فاتورة دم كبيرة، فما بين سنة 2000-2006 استشهد 1% من سكان المخيم، وكل أسير خلف القضبان، وآخر يفرج عنه يذكرهم بتلك المرحلة التي عاشوها.
وبعد عقدين عاد مخيم جنين إلى الواجهة بعد تشكيل “كتيبة جنين” واغتيال شيرين أبو عاقلة مراسلة قناة الجزيرة التي زارت جنين والمخيم ضمن مهنتها مرات كثيرة، وغطت أحداثا في أماكن مختلفة سنوات طويلة، ليكون قدرها أن تقضي على أرض المخيم في مايو/أيار 2022.
وكأن المخيم بما يحمله من رمزيات يصر على الحضور دوما، وتوالت الأحداث حتى شهد المخيم اجتياحا ذكّر الفلسطينيين والعالم باجتياح 2002 وذلك يومي 3 و4 يوليو/تموز 2023 واستمر 40 ساعة وأسفر عن 12 شهيدا و100 جريح بعضهم حالته صعبة، مع تدمير كبير في البنى التحتية والمنازل، وتشريد ما يقارب 4 آلاف من سكان المخيم، كثير منهم نساء وأطفال وشيوخ ومرضى.
لماذا مخيم جنين؟
لن أوغل في تفصيلات ما جرى، فالشاشات التابعة للقنوات الفضائية والمواقع الإخبارية مليئة بهذا، والتحليلات السياسية والعسكرية من مختلف الأطراف دسمة بما يغنيني عن كثرة الحديث؟
ولكن، ظل هناك جانب قليلون من تناولوه بعيدا عن الطوباوية (المثالية) أو داروا حوله، وهو لماذا مخيم جنين يحظى بهذا الاهتمام؟ وتسارع دول لإعادة إعمار ما دمره الاحتلال فيه، وتتسابق قنوات فضائية مهمة لتغطية أحداثه، وقبل ذلك لماذا وللمرة الثانية يتبلور داخل المخيم وضع أو حالة خاصة من مقاومة الاحتلال تمتاز بالفرادة داخل الضفة الغربية؟
وهذا يقود إلى سؤال آخر: لماذا بقية المناطق بما في ذلك محيط مخيم جنين لم تتكون داخلها حالة شبيهة بحالة المخيم؟ بما في ذلك مخيمات لاجئين أخرى كان لها مع الاحتلال صولات وجولات في مراحل سابقة؟ لماذا مخيم جنين هو الأيقونة المتفردة المتواصلة حتى الآن؟
هذه الأسئلة تجعلنا ننظر من زاوية أخرى؛ نظرا لأهميتها وغوصها في جذور الحالة الصامدة المتحدية للاحتلال وجوهرها، بينما ركزت التغطيات غالبا على الظاهرة أو تجليات الحالة.
مخيم جنين في جغرافية خاصة
في عجالة، وللتذكير لا التعريف لأنه نشر عن هذا كثيرا؛ فإن مخيم جنين يقع غرب مدينة جنين المحاذية لمرج بني عامر أحد أخصب سهول الهلال الخصيب، والواقعة شمال الضفة الغربية التي احتلت بعد هزيمة 1967 وكانت تابعة للأردن مدنيا وعسكريا وسياسيا بالطبع.
أقامت الأونروا (وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين) المخيم على أراضي جنين سنة 1953 وتبلغ مساحته حاليا أقل من نصف كيلومتر مربع (أضيف للمخيم مساحة جديدة ملاصقة عبارة عن 14 دونما ضمن تبرع رئيس دولة الإمارات الراحل الشيخ زايد آل نهيان لإعمار ما دمره الاحتلال في اجتياح 2002) ويبلغ عدد سكانه حاليا حوالي 12 ألف نسمة، وللتنويه فإن هناك تقديرات أخرى لعدد السكان أعلى من هذا الرقم المأخوذ من الجهاز المركزي للإحصاء في فلسطين، وهي ليست بعيدة عن الواقع الاجتماعي، لأنها تأخذ في عين الاعتبار أن سكان الأحياء المحيطة بالمخيم من الشمال (الزهراء) والغرب (الهدف وواد برقين) والجنوب (الجابريات) أغلبيتهم الساحقة كانوا من سكان مخيم جنين ويرتبطون به كونهم يحملون صفة اللجوء الفلسطيني وفق التعريف الفلسطيني وقرارات الأمم المتحدة، إضافة بالطبع للأواصر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها.
مخيم جنين ملاصق من الشرق للمشفى الحكومي (مستشفى الشهيد الدكتور خليل سليمان) الذي تأسس بعد بضع سنين من إقامة المخيم إبان الإدارة الأردنية، وحمل اسمه الحالي، لأن مدير مركز الهلال الأحمر الدكتور خليل محمود سليمان، استشهد في الأسبوع الأول من مارس/آذار 2002 وذلك أثناء عملية عسكرية إسرائيلية حملت اسم “رحلة بالألوان” استهدفت مجموعة مخيمات في الضفة والقطاع، وفشلت في مخيم جنين؛ وكان الدكتور خليل يركب سيارة إسعاف دخل بها إلى المخيم لإخلاء الجرحى، فأطلقت قوة من جيش الاحتلال قذيفة أدت إلى احتراق جسده تماما وهو في العقد السابع من عمره.
والدكتور خليل ينحدر من بلدة عرابة جنوب غرب جنين، ويقيم في منزل في مدينة جنين ليس بعيدا عن المخيم جهة الشرق.
وأسرد هذا الحدث للإشارة إلى أن مخيم جنين يراق على أرضه دم من ليس من سكانه من شرائح مختلفة بنيران الاحتلال؛ إذ لا فرق عند الاحتلال بين مقاوم مثل يوسف قبها (أبو جندل) ابن بلدة يعبد، أو طبيب مثل خليل سليمان، أو صحفية مثل شيرين أبو عاقلة.
وفي حدود علمي ليس هناك منطقة مثل مخيم جنين فيها هذا التميز أو الخصوصية، حيث يختلط دم أناس من مناطق مختلفة ودخلوه لأسباب مختلفة، والجامع بينهم هو ظلم الاحتلال وعدوانه.
وفي الجهة الغربية من مخيم جنين مقبرة تدفن فيها جثامين الشهداء والموتى، وهذا دفع بعض الشبان إلى التندر الحامل لنبرة متحدية للأعداء: احذر المخيم فأوله مشفى وآخره مقبرة!
وليس هناك مساحات فاصلة واسعة بين بيوت المخيم التابعة لإدارة الأونروا وأعرافها وقوانينها، وبيوت مدينة جنين القريبة التابعة لبلدية جنين، فهناك تداخل واضح في المناطق المحاذية للمخيم.
جنين وتاريخ من الصراع مع الغزاة
جنين، مدينة على صغرها نسبيا ولكنها قديمة (كنعانية) وشهدت أحداثا كثيرة، وما يهمنا منها هو مقاومة الغزاة، وهم سبب عدم وجود فترات استقرار وهدوء طويلة في جنين؛ فقد قاوم أهل جنين وقراها حملة نابليون الفرنسية وألحقوا بجيشه -برفقة العثمانيين- خسائر فادحة فأمر بإحراق المدينة!
وفي فترة الانتداب البريطاني كان لجنين صولات وجولات، ولا تذكر جنين إلا مقرونة باسم الشيخ الشهيد عز الدين القسام الذي استشهد في أحراش بلدة يعبد القريبة منها عام 1935 وعندما اندلعت الثورة الكبرى عام 1936 كان لجنين وأهلها ومجاهديها بصمات مميزة في مقارعة الإنجليز ومهاجمة المستعمرات اليهودية.
وقد هدم الإنجليز أجزاء كبيرة من مبانيها انتقاما لمقتل ضابط إنجليزي كبير على يد مجاهد من بلدة قباطية (علي أبو عين) عام 1938.