لا تكاد نشرة إخبارية أو برنامج سياسي في وسائل الإعلام الإسرائيلية -هذه الأيام- يخلو من الحديث عن مواجهة عسكرية مرتقبة في المنطقة، وتوقع سيناريوهاتها المتعددة وآثارها، سواء على الجبهة الشمالية المتاخمة للحدود اللبنانية، أو الجبهة الجنوبية المحيطة بغزة، أو حتى مناطق الداخل الفلسطيني. ويتم الحديث عن هذه المواجهة في الإعلام الإسرائيلي وكأنها أصبحت حتمية، ما يعيد للأذهان الأجواء التي سبقت حرب 2006 بين إسرائيل ولبنان.
تجد التقارير المختلفة تتحدث عن سيناريوهات اغتيال قيادات فلسطينية تتهمها (إسرائيل) بإشعال الضفة الغربية، وعن إمكانية تدخل حزب الله اللبناني واستعداده للمشاركة في معركة في حال تنفيذ أي عملية اغتيال على الأراضي اللبنانية، وغير ذلك مما بات يملأ الصحافة والتلفزة العبرية. لكن الفروق بين هذه المواجهة -إن حدثت- ومواجهة عام 2006 كبيرة من حيث الظروف السياسية المحلية والإقليمية. وأبرز هذه الفروقات هو نوعية التكوين الحاكم في (إسرائيل) اليوم، الذي يقوده اليمين المتطرف وتيار الصهيونية الدينية بزعامة الثنائي الكاهاني سموتريتش وبن غفير. يؤمن هذا التيار بالحرب الدينية المقدسة ويعتقد أنها السبيل الوحيد للخلاص في معناه الديني. وهذا يعني أن الأماكن المقدسة قد تصبح إحدى نقاط تصعيد التوتر في المنطقة قبل أي مواجهة من هذا النوع، وقد تكون من أبرز المناطق التي تتأثر بها في الوقت نفسه.
يأتي الحديث عن المواجهة العسكرية الشاملة في حين تتأهب القدس لموسم من أطول مواسم الاقتحامات والاعتداءات على المقدسات خلال السنة، وهو موسم بداية السنة العبرية وما يليها حتى نهاية عيد العُرش. حيث يبدأ هذا الموسم في 16 من شهر سبتمبر الحالي ويستمر لـ22 يومًا حتى 7 من شهر أكتوبر المقبل. وهذا الموسم يبدأ مع عيد رأس السنة العبرية، حيث تحاول الجماعات المتطرفة نفخ البوق (الشوفار) داخل المسجد الأقصى المبارك، يتبعه ما تُسمى “أيام التوبة”، وهي عشرة أيام تنمو فيها أداء صلوات معينة بملابس محددة داخل المسجد، وتصل إلى “يوم الغفران” الأكثر أهمية في السنة كلها، وبعده بقليل تبدأ أيام عيد العُرش التي تمتد من نهاية سبتمبر حتى نهاية الأسبوع الأول من أكتوبر المقبل.
وتعد الجماعات المتطرفة للمعبد، التي تشكل العمود الفقري للتيار الكاهني وتيار الصهيونية الدينية، أن هذا الموسم كل عام هو الموسم السنوي المقابل لشهر رمضان المبارك عند المسلمين من حيث طول المدة وارتباط الطقوس الدينية التي تقيمها هذه الجماعات في المسجد الأقصى بفكرة السيطرة على المكان وفرض وجودها فيه. وعادةً، تتخذ الأجهزة الأمنية الإسرائيلية احتياطات خاصة في هذه الفترة لمنع تطور استفزازات هذه الجماعات إلى تصعيد شعبي فلسطيني مع مركزه في القدس. ولهذا السبب، سمحت شرطة الاحتلال، على سبيل المثال، لأفراد هذه الجماعات بنفخ البوق في عيد رأس السنة العبرية داخل المسجد الأقصى المبارك مرتين على التوالي خلال العامين الماضيين، مع الحفاظ بصرامة على عدم توثيق الحدث أو تصويره بأي شكل، سواء من قِبل حراس المسجد الأقصى والمصلين فيه أو من أفراد هذه الجماعات المتطرفة، ومنعت أي تغطية إعلامية له تمامًا، خوفًا من أن يؤدي ذلك إلى اضطرابات واسعة في المنطقة.
في هذا الموسم من هذا العام، يسعى وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير -كما هو عادته- لإثبات قوته وسيطرته على الشرطة. وهو يطمح في تصعيد الوضع في الأراضي الفلسطينية بأي طريقة ممكنة، حتى وإن كان ذلك يعني الاصطدام مع المؤسسة الأمنية، كما شهدنا في قراره تغيير مواعيد زيارة الأسرى لتصبح مرة كل شهرين بدلا من مرة كل شهر، قرار رفضه مجلس الأمن القومي الإسرائيلي. وبناءً على ذلك، لا يمكن استبعاد محاولة بن غفير لتصعيد الوضع في المسجد الأقصى خلال هذه المناسبات الدينية التي تستمر لمدة 22 يومًا، من خلال السماح بأعمال استفزازية.
في نفس الوقت، جماعات المعبد المتطرفة، التي تتلقى اليوم دعمًا غير محدود من وزارة الأمن القومي بزعامة بن غفير، قد تتخذ خطوات استفزازية دون توجيه مباشر من بن غفير. وذلك بناءً على ثقتها بولائه الكامل لها واستعداده لحماية أي تحرك من قبلها بحق الأماكن المقدسة في القدس. هناك اليوم عدة مؤشرات تدل على هذا التوجه. من أبرزها التصعيد الأخير ضد مصلى باب الرحمة، حيث اقتحمت شرطة الاحتلال المكان في فجر الجمعة الأولى من شهر سبتمبر الجاري، عابثة بمحتوياته ومحطمة له بشكل غير معتاد. وهذه الأحداث تعكس نية سلطات الاحتلال في تهيئة المنطقة لفرض وجهة نظرها حول مصلى باب الرحمة، خاصة بعد فشلها في إغلاقه أو استعادة السيطرة عليه عقب هبة باب الرحمة في عام 2019.
هذا التصعيد قد يمثل عاملا أساسيا -وإن كان غير مباشر- في زيادة الاحتقان وتسخين المنطقة، موجهًا إياها نحو مواجهة عسكرية واسعة على عدة جبهات. قد تكون أوسع من مواجهة عام 2021، خصوصًا إذا دخل حزب الله اللبناني الصراع. في حال حدوث مثل هذه المواجهة، ستكون القدس بلا شك من أبرز ميادينها. لا أقصد المواجهة العسكرية داخل القدس بالضرورة، ولكن الانشغال العالمي بمواجهة على الجبهتين اللبنانية والغزّية قد يدفع بعض أفراد جماعات المعبد المتطرفة لاتخاذ خطوة جريئة وخطيرة مثل محاولة فرض تقسيم مكاني داخل المسجد الأقصى، أو السيطرة على أحد مبانيه أو مرافقه، مثل باب الرحمة أو الساحة الشرقية أو التصويرة الجنوبية الغربية، ليحولوها إلى مكان يقيم فيه المستوطنون طقوسهم الدينية. بعض قادة الصهيونية الدينية قد يستغلون هذه المرحلة للسيطرة على الحاخامية الكبرى في إسرائيل، خصوصًا مع اقتراب موعد انتخاب الحاخام الأكبر نهاية السنة العبرية في شهر سبتمبر الحالي.
إن السيناريو الذي يمكن أن يمنع اليمين الإسرائيلي من محاولة استغلال الأوضاع وفرض سيطرته على الأقصى هو الفعل الشعبي الذي أثبت كفاءته في القدس في السنوات الماضية، حيث إن أي هبة شعبية شاملة تشكل في الحقيقة حاضنةً اجتماعيةً للأماكن المقدسة، وهو ما يخشاه المستوى الأمني الإسرائيلي لأنه يفهم أن القدس تشكل الخاصرة الأضعف لـ(إسرائيل)، ولذلك فإن اللجوء إلى سيناريو الهبة الشعبية قد يكون هو الاتجاه الطبيعي الذي تسير إليه الأحداث في القدس في حال وجود شواهد قوية تدل على تحضير الاحتلال للسيطرة الكاملة أو الجزئية على المسجد الأقصى قبيل أو خلال أي مواجهةٍ عسكرية قادمة. وهذا يعني أنه يجب توجيه النظر دائما نحو الصراع المركزي في القدس باعتباره الأكثر حساسيةً على الإطلاق بين جميع مناطق الاحتكاك. فالاعتداءات في القدس ستكون وقودا قد يحرك الأوضاع ويسهم في تقريب أي مواجهةٍ عسكريةٍ في المنطقة كلها، لا في القدس فقط.