تمضي بريطانيا في مشروعها الذي تعمل عليه منذ العام 2016، لتحصين “إسرائيل” من المقاطعة الشعبية والاقتصادية، في إطار قانون سمّته “قانون النشاط الاقتصادي للهيئات العامّة (الشؤون الخارجية)”. فبعد التصويت عليه بالقراءة الثانية في مجلس العموم، ينتقل القانون إلى لجنة مختصة في المجلس لمناقشته، وفي حين أنّ هذه اللجنة استدعت العديد من المنظمات اليهودية في بريطانيا للاستماع إليها بشأن هذا القانون، وتضرّرها من حركة المقاطعة، فإنّها في المقابل لم تستدع أيّ منظمة فلسطينية للاستماع إليها، كما أنّها -وللمفارقة- لم تستدع منظمة “BDS” التي يستهدفها هذا القانون أساساً، بل لم تستدع أوساطاً في الحكومة البريطانية نفسها لديها تحفظ على القانون لأسباب سياسية صرفة، ترى أنّ هذا القانون يخلّ بالتوازن الشكلي الذي يحتاجه النفوذ البريطاني في قضايا “الشرق الأوسط”، وذلك فضلاً عن كون القانون جعل الأراضي المحتلة عام 1967 كتلة واحدة مع ما يدعونه “إسرائيل”، أي أنّ التحصين من المقاطعة يشمل مصانع المستوطنات في الضفّة الغربية!
بقطع النظر عن الأسباب المباشرة التي تدفع الحكومة البريطانية الحالية، بقيادة حزب المحافظين، للإصرار المحموم على هذا القانون، كالأسباب الانتخابية، أو القلق من تصاعد حركة مقاطعة “إسرائيل” في المجتمعات الغربية، والتي قد تتغذّى من سياسات اليمين الصهيوني في “إسرائيل”، ممّا يعني أنّ القانون في جوهره يكشف عن قلق غربي إزاء مستقبل “إسرائيل”، فإنّه من جهة أخرى يطرح أسئلة كثيرة حول الديمقراطية الغربية، التي تجد الآليات الكافية لتقييد حرّية التعبير، ومنع الهيئات المحلّيّة من تدبير سياساتها الاقتصادية وفق توجّهاتها الأخلاقية، وإلزامها بمطابقة سياساتها الاقتصادية مع سياسات الحكومة، ويلتقي مع ذلك كون “إسرائيل” ثابتاً في السياسات الغربية، ومنها بريطانيا، صاحبة الدور الأكبر في التأسيس لـ”إسرائيل”، وفي هندسة المنطقة العربية بتحويلها إلى منطقة عازلة، لأجل ضمان البقاء الإسرائيلي.
تسمية القانون مضلّلة، إذ تُبدي الأمر وكأنّه شامل، بحيث تُمنع الهيئات المحلّيّة من اتخاذ إجراءات مقاطعة اقتصادية لا تنسجم مع السياسات الخارجية للحكومة البريطانية، وهذا صحيح، إلا أنّه نصّ على “إسرائيل” وحدها بالاستثناء من أيّ مقاطعة، مما يعني أنّه، حتّى لو تغيّرت سياسات الحكومات البريطانية المتعاقبة تجاه “إسرائيل”، فإنّ المنع من مقاطعتها يبقى قائماً، فالأمر بخصوص “إسرائيل” ثابت، ولا يتعلّق بسياسات الحكومات البريطانية المتغيّرة، ممّا يعني أنّ القانون، وبخصوص “إسرائيل” حصراً، لا يكبّل حرّيّة التعبير وخيارات الهيئات المحلّيّة في هذه اللحظة الراهنة فحسب، ولا يربط خياراتها هذه بسياسات الحكومات المتعاقبة، ولكنّه يكبّل الأجيال القادمة، ويمنع أبداً مقاطعة “إسرائيل” حتّى لو تغيّرت سياسات الحكومات البريطانية المستقبليّة، إلا إذا غُيّر القانون من خلال البرلمان، لتكون “إسرائيل” ثابتاً بريطانيّاً أكثر من أيّ شيء بريطاني آخر!
مرّة أخرى، يطرح هذا القانون بهذه الصيغة، التي تجعل “إسرائيل” فوق أجيال البريطانيين القادمة، أسئلة كثيرة حول الديمقراطية الغربية وإمكانات توظيفها في سياسات غير ديمقراطية، لكنّ الأهمّ، مرّة أخرى، في كون “إسرائيل” ثابتاً غربيّاً، في مقابل أنّ الفلسطينيين وقضيتهم، تقترب من كونها لا شيء، لا بالنسبة لبريطانيا مؤسّسة “إسرائيل”، بل بالنسبة للنظام الإقليمي العربي الراهن، الذي لا يبدو أنّه في حالة من الإدراك لحقيقة القلق الغربي أصلاً من انطواء الكيان الإسرائيلي على عوامل تفكّك وتراجع، أكثر من أيّ وقت ماض.
يُذكّر الثابت الإسرائيلي في السياسات الغربية، والمتحوّل الفلسطيني الرخو في السياسات العربيّة، بمكتب مقاطعة “إسرائيل” الذي أسّسته جامعة الدول العربية في العام 1951، ثمّ ما تبعه من قانون عام بمقاطعة “إسرائيل” عام 1954، تبعه تأسيس مكاتب إقليمية لمراقبة قرار المقاطعة، وتقديم التوصيات المستمرّة لتعزيز القرار، وحصر الشركات المخالفة للقانون، بما في ذلك الأجنبية المستثمرة في الكيان الصهيوني، كما تبع ذلك تكييف البلاد العربية قوانينها التشريعية لتنسجم مع قانون المقاطعة الموحّد هذا
الخرق الأوّل الفجّ لهذه السياسة العربية بدأ بـ”السلام المنفرد” الذي ذهبت به مصر نحو “إسرائيل”، ثمّ انفرط الأمر بعد توقيع اتفاقية أوسلو، مع موجة التطبيع الأولى، والتي لم تكن اتفاقية وادي عربة الأردنية/ الإسرائيلية معلمها الوحيد، ولكن أيضاً انخرطت في تلك الموجة دول لا تُعرف لها سابقة صدام مباشر بـ”إسرائيل”، أو حدود محاذية لها، كدول عُمان وقطر وموريتانيا والمغرب وتونس، بمستويات تمثيلية متفاوتة، وذلك سوى مستويات سرّية من التطبيع، أو لقاءات سياسية علنية أو شبه علنية.
وإذا أمكن التذرّع بأنّ التأسيس العلني متفاوت المستويات للعلاقات مع “إسرائيل” في تسعينيات القرن الماضي، قائم على كون “السلام” بات خياراً وحيداً مع اتجاه قيادة منظمة التحرير الفلسطينية إليه، بتوقيع اتفاقية أوسلو وتأسيس السلطة الفلسطينية، بما يستدعي دعمه ومنحه الفرصة، وتعزيز الموقف الفلسطيني بإمكان “الضغط” العربي المباشر على “إسرائيل” (وهي ذريعة أقرب إلى النكتة السوداء، لكن هذا ما كانوا يقولونه)، فإنّ موجة التطبيع الجارية، بجوهرها وشكلها وخطابها ودعايتها، والذاهبة أكثر نحو التحالف مع “إسرائيل”، تتناقض تماماً مع ذرائع التسعينيات، فهذا التخلّي الكامل عن القضية الفلسطينية، والترتيب لعلاقات تحالفية مع “إسرائيل” يأتي مع رسوخ اليقين بفشل “حلّ الدولتين” وصعود سياسات التصفية اليمينية الصهيونية للوجود الفلسطيني السياسي والفيزيائي، والذي، وللمفارقة، يحرج داعمي “إسرائيل” الغربيين، ولو قليلاً، ويثير قلقهم، ولكنّه أبداً لا يثير أيّ اهتمام لدى حلفائها العرب الجدد!
دون أيّ تبرئة لقيادة منظمة التحرير، فإنّه لم يكن لها أن تذهب إلى خيار التسوية لو لم تذهب إليه مصر، ممّا أخلّ بالتوازن الإقليمي حينها بخروج مصر من الصراع، كما أنّه لم يكن لقيادة المنظمة أن تذهب نحو ذلك الخيار؛ لو وجدت دعماً جادّاً ينظر إلى فلسطين بوصفها ثابتاً، فوق الخلافات العربية البينية، وفوق التوظيف الرخيص لفلسطين لتحصيل مكاسب في الإطار الإقليمي أو الدولي، ولأنّ فلسطين لم تكن يوماً ثابتاً في السياسات العربية الرسمية، فإنّ تحالف دول عربية مع “إسرائيل” سيغدو أكثر سهولة ووقاحة؛ مع السياسات الحالية لقيادة السلطة الرافضة لقضية المواجهة، بالرغم من وعيها بفشل مشروعها السياسي تماماً وتحوّل السلطة إلى غاية نهائية بعدما كانت، كما يُفترض، جسراً للوصول بالفلسطينيين إلى دولة على الأراضي المحتلة عام 1967 كاملة!
والحاصل، أنّ قوّة “إسرائيل” بالدرجة الأولى، في هذا الظرف الدولي، في كونها ثابتاً غربيّاً، وضعف الفلسطينيين في كونهم أقلّ من متحوّل رخو في السياسات العربية، بل لا شيء، وبينما يُصوَّر أيّ نقد سياسيّ لـ”إسرائيل” في الغرب “معاداة للسامية”، ويُمنع أصلاً في بلاد عربية، فإنّ حملات عربية لتنميط الفلسطينيين وشيطنتهم وإثارة الكراهية ضدّهم واتهامهم ببيع أرضهم لليهود، تتجدّد باستمرار!
يبدو وبما أن بريطانيا عقدة هذا الحديث كلّه، أنّ اللحظة التأسيسية للنظام الإقليمي العربي لم تزل خادمة لـ”إسرائيل”، كما أرادتها وبدأتها بريطانيا، وبنتائج تفوق البدايات.
بعد كلّ ذلك لا ينبغي أن يفوت التذكير بأن الديمقراطية الغربية محكومة بثوابت ضمنيّة أو منصوصة، في رأسها “إسرائيل”، وهو أمر من الضروري أن يعيه دعاة الديمقراطية في بلادنا؛ الصادقون منهم والمزيّفون!