محسن محمد صالح
استشهد القائد صالح العاروري رحمه الله، ولكنّه تحول من قيادي ميداني إلى رمز كبير وحالة إلهام للمقاومة الفلسطينية بل وللشعب الفلسطيني وللأمة بشكل عام. وكذلك فعل رفاقه الذين شاركوه الشهادة أو سبقوه إليها.
الاستعمار والطغيان والرموز:
ما لا يدركه الاستعمار أو قوى الطغيان عند التعامل مع الثورات وحركات التغيير، أن قتل الرموز والقادة يؤدي في كثير من الأحيان إلى تأجيج الثورات التي تقوم على دين أو فكرة أو رسالة أو أيديولوجية تُعبّر عن الوعي الجمعي للشعب أو الأمة. فعندما يرتقي زعماؤها شهداء، فإن هذه الثورات والحركات تزداد مصداقيتها وثقة الجماهير بها؛ ويتحول زعماؤها إلى منارات ومصادر إلهام، وينتقل تأثيرهم المؤقت إلى حالة تتصف بالدوام، بحسب مكانتهم ومواقفهم وحالة الإلهام التي تركوها خلفهم. وفوق ذلك، فإن ما يفعله الطاغية أو المستعمر يرفع جدران الدم والعداء مع الشعوب المحكومة بالقوة والنار، ويضاعف الرغبة في الانتقام.
هذه الظاهرة هي ظاهرة عامة في حركة الحياة وتجارب التاريخ، وتنطبق على مختلف الأيديولوجيات والشعوب؛ وهي تنطبق بشكل فعال على الشعوب الحية ذات العمق الحضاري والعقائدي والتاريخي وليس المجتمعات المفككة الهشة، وتنطبق على التيارات أو الحركات التي تجتمع على الفكرة والمبدأ وليس على الجماعات التي تلتف حول الشخص أو المصلحة.
وفي القرآن الكريم ترى ذلك في قصص سحرة فرعون وفي مؤمن آل فرعون، وفي زكريا عليه السلام الذي نشر بالمنشار، وفي يحيى عليه السلام الذي قطع رأسه لأجل امرأة غانية. وفي المسيحية يتخذ أتباعها بحسب اعتقادهم مصادر إلهام هائلة؛ من “تضحية” المسيح عليه السلام، ومن استشهاد ستيفن (ستيفانوس) وبطرس (بيتر) وبولس(بول).. وغيرهم.
وفي التاريخ الإسلامي نَبَعتْ عظمة الكثيرين من استشهادهم كما في سُمية وعمار وخبيب بن عدي رضي الله عنهم، ولعل نموذج الحسين بن علي رضي الله عنه هو الأشهر، والأكثر تأثيرا.
وفي تاريخ فلسطين الحديث تتربع نماذج القسام وعبد القادر الحسيني وعبد الفتاح حمود ومحمد يوسف النجار وخليل الوزير وأحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي.. وغيرهم كثير. وما ضَرَّ هؤلاء ألاّ تتحقق انتصارات كبرى على أيديهم، أو يحققوا أهداف العودة والتحرير؛ ولكن تضحياتهم كانت وما تزال نماذج ملهمة ووقودا للثورة وقوتها لمن حمل الراية بعدهم.
الشيخ صالح العاروري:
إن خسارة حماس بالشيخ صالح ورفاقه خسارة كبيرة، فهو الرجل الثاني في الحركة، ويتمتع بعدد من المواصفات قل نظيرها. فإلى جانب ذكائه الحاد وشخصيته القيادية القوية وشجاعته، وقدرته على الإقناع وديناميته العالية، وتواضعه وسهولة معشره، فقد كان يُعدُّ أحد مفكري الحركة ومنظري مرحلتها، وله دوره الكبير في إدارة علاقاتها الخارجية، خصوصا مع “محور المقاومة”.
الشيخ صالح العاروري المولود سنة 1966، ترعرع في أحضان جماعة الإخوان المسلمين في قرية عارورة، وصار رئيسا للاتجاه الإسلامي في مدرسة القرية، ثم رئيسا للكتلة الإسلامية في جامعة الخليل، بينما كان يتابع تخصصه في الشريعة الإسلامية.
كتائب القسام في الضفة:
كانت المحطة الفارقة في حياة العاروري دوره الرئيس في تأسيس كتائب الشيخ عز الدين القسام في الضفة الغربية. فقد كانت حماس قد شكلت جناحها العسكري الحالي “كتائب عز الدين القسام” في 1990، الذي حلّ محل “المجاهدون الفلسطينيون”، في قطاع غزة. أما في الضفة الغربية فقد أخذ العمل العسكري في البداية شكل المبادرات الفردية أو المنظمة المحدودة، وكانت أحد أولى المبادرات “مجموعة بيت أمر” والتي تعود أولى عملياتها إلى آذار/ مارس 1988؛ ومجموعة سمير الأسطة في نابلس؛ ومجموعات البراق التي تشكلت بإشراف قيادة حماس في الخليل، في النصف الأول من 1990، بالإضافة إلى محاولة الشيخ محمد أبو طير بعد الإفراج عنه في آذار/ مارس 1991.
ويعود اتخاذ كتائب القسام شكلا مستقرا في الضفة سنة 1991، إلى الدور الذي لعبه الشيخ صالح العاروري عندما كان أمير الكتلة الإسلامية في جامعة الخليل، والتقى في السجن مع عادل عوض الله، أمير الكتلة الإسلامية في جامعة بيت لحم، وإبراهيم حامد، أمير الكتلة الإسلامية في جامعة بيرزيت، حيث قرروا إطلاق العمل العسكري بعد خروجهم من السجن وإعادة تشكيل المكتب الإداري للكتلة الإسلامية في مدينة رام الله وقُراها برئاسة العاروري وعضويتهما سنة 1991. واستخدموا مواقعهم لترشيح أعضاء في العمل العسكري، على أن يقود العاروري الجهاز ويكون نائبه عوض الله، ويتولى حامد التواصل مع الخارج لجلب الدعم للجهاز.
وقام العاروري بتجنيد موسى دودين وعباس شبانة من الخليل، واستقبل عددا من مطاردي القسام من غزة، وتولى إيواءهم وتسليحهم. ونسَّق العمل في شمال الضفة مع زاهر جبارين وعدنان مرعي، كما نسَّق مع قطاع غزة. ونسَّقت قيادة الحركة في الخارج العمل مع صالح العاروري ورفاقه، بإشراف موسى أبو مرزوق، وأرسلت محمد صلاح بمبالغ مالية لتمويل العمل العسكري في الضفة، وتمّ تثبيت اسم كتائب القسام في الضفة بالتوافق مع الخارج وغزة سنة 1992. ونُفذت أولى العمليات باسم القسام في الضفة على يد محمد بشارات الذي قَتَل جنديا صهيونيا في 22 أيلول/ سبتمبر 1992. ثم تواصل العمل، بالرغم من اعتقال العاروري في تشرين الأول/ أكتوبر 1992 وحبسه إداريا.
في السجون الإسرائيلية:
مكث الشيخ صالح في السجون الإسرائيلية نحو 18 عاما (1992-2010) تخللتها فترة قصيرة أفرج عنه فيها ثم أعيد اعتقاله. وتميز خلال اعتقاله بكونه شخصية إجماع وطني، بالإضافة إلى كونه أحد أبرز رموز حماس في السجون. وكان عادة ما يكون مرجعا معتمدا لتسوية الأمور وحل أي خلاف بين الأسرى، بفضل ما يتحلى به من حكمة وقدرات قيادية وإمكانات استيعابية واسعة للعناصر المختلفة. وقد لعب الشيخ صالح دورا أساسيا في ترتيب صفقة شاليط من داخل السجون بالتنسيق مع يحيى السنوار ورفاقه في حماس، والتي أدت إلى إطلاق سراح 1,027 أسيرا، بينهم أكثر من 300 من المحكومين بالمؤبدات.
متابعة الضفة الغربية:
أُطلق سراح الشيخ صالح قبيل صفقة شاليط، وأُبعد عن فلسطين المحتلة سنة 2010، حيث غادر إلى سوريا لينضم إلى قيادة حماس هناك، وليتابع ملف الضفة الغربية من خارج فلسطين؛ وقد ظل يدير هذا الملف حتى استشهاده. وكان للشيخ صالح دور أساس في تفعيل العمل العسكري في الضفة الغربية بالرغم من الظروف القاسية التي تعانيها الضفة في ظل التنسيق الأمني بين سلطة رام الله والكيان الصهيوني. وقد جعل هذا الدور الشيخ صالح أحد أكبر المطلوبين للتصفية في قوائم الاحتلال.
ومن المعروف أيضا أن الولايات المتحدة جعلته في قوائم الإرهاب منذ أيلول/ سبتمبر 2015، ووضعت لاحقا مكافأة بمبلغ خمسة ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تؤدي للقبض عليه.
من ناحية أخرى، فإن الشيخ صالح انتخب نائبا لرئيس المكتب السياسي لحركة حماس في 2017 وأعيد انتخابه للموقع نفسه في 2021. ولعب خصوصا في السنوات الست الماضية دورا مفصليا في صناعة قرار الحركة وبناء توجهاتها، إلى جانب دوره في إدارة الضفة الغربية.
بالرغم من الخسارة الكبيرة والفراغ الذي سيتركه الشيخ صالح رحمه الله، باستشهاده وعدد من رفاقه؛ فإن حركة حماس حركة إسلامية ذات قاعدة شعبية واسعة، حافلة بالرموز والقيادات والكفاءات. وإن التجربة التاريخية، تشير إلى قدرة هذه الحركة على التعافي والاتساع، وتحويل التضحيات إلى حالة من مراكمة المنجزات، التي تعمق مصداقيتها، وتزيد دائرة تأثيرها، وتجتذب الجماهير نحوها.