توافق الذكرى السنوية الرابعة والعشرون على استشهاد المجاهد القسامي نبيل عبد الرحمن خاطر من قرية بروقين قرب مدينة سلفيت، والذي ارتقى متأثراً بجراح أصيب بها جراء انفجار عبوة بيديه أثناء توجهه لزراعتها في إحدى مستوطنات الاحتلال في العاشر من شباط/ فبراير لعام 2000.
ولد الشهيد القسامي “نبيل خاطر” في قرية بروقين قرب سلفيت بتاريخ 25/2/1979، وكان آخر العنقود في أسرة مجاهدة، عرف عنها التقوى والصلاح، فقد كان أصغر أشقائه الخمسة وشقيقاته الستة، وهذا ما جعله يحظى بكل الامتيازات، التي يحصل عليها دائما أصغر الأبناء، لكنه ومع ذلك اختار الرحيل إلى منزل ليس فيه إلا الخلود والبقاء.
تلقى نبيل تعليمه الأساس في مدارس قريته والمنطقة، ومن هناك حصل على شهادة الثانوية العامة في الفرع العلمي، وكان نبوغه ونباهته وفطنته وصفاء ذهنه ونقاء سريرته أهم ما ميز سيرته، وأبرز ما يخطر ببال كل من عرفه في حياته عندما يتذكر شهادته.
عرف الشهيد نبيل منذ طفولته التربية الإسلامية، فعائلته كانت من العائلات المعروفة بتدينها في القرية، وأخذ منذ نعومة أظفاره يتعلق في المسجد وفي التربية الجهادية، وقد كانت له عدة احتكاكات مع قوات الاحتلال، التي داهمت منزله عدة مرات لاعتقال أشقائه في الانتفاضة الأولى، فنما حب الوطن وكره المحتلين في قلبه، وصار يعد العدة ليوم الثأر والانتقام.
مدرسة الرجال
التحق نبيل بعد إنهاء الثانوية العامة في جامعة الخليل ليدرس في كلية الزراعة بها، وكان ذلك في العام 1997, كانت المرحلة ساخنة, والضفة الغربية ملتهبة، تخنقها نتائج الاتفاقيات المذلة التي وقعت من مدريد إلى أوسلو، وهناك التحق نبيل بمدرسة الجهاد والمقاومة، وانضم إلى صفوف الكتلة الإسلامية، مدرسة الرجال وصانعة الأبطال.
تقدم نبيل في صفوف الكتلة إلى المراكز القيادية, وأفرزته نتائج الانتخابات الطلابية هناك عضوا في مجلس اتحاد الطلبة، لكن كل ذلك لم يكن ليشبع حبه للإسلام، فقرر ترك كلية الزراعة ليلتحق في كلية الشريعة، وقرر أن يتوج حبه لدينه بشهادة ينال فيها منازل الرضوان.
عرف نبيل بوعيه الفكري ونضوجه الاجتماعي ورهافة حسه الديني، بالإضافة إلى وعيه واتساع أفق تفكيره السياسي، كما كان متفوقا في مدرسته، فكان يميل إلى المواد العلمية لذكائه وسرعة بديهته، فحصل على شهادته الثانوية في الفرع العلمي من مدرسة كفر الديك الثانوية المجاورة لمسقط رأسه “بروقين”، ومن ثم التحق في جامعة الخليل، ومن هنا تبدأ قصة جديدة للحكاية.
كان نبيل محبا للأرض، مقدرا قيمتها، وحاجة المجتمع الفلسطيني للاستفادة منها، واستثمارها بالطريقة الصحيحة، التي تعزز حقهم فيها، وترسخ تاريخهم العريق، حتى تتوارثه الأجيال من بعد الأجيال, فدخل كلية الهندسة الزراعية كي يبدأ بنفسه بالحفاظ والعناية في أرض الأجداد كقدوة لغيرة من أبناء جيله، الذين كادوا ينسون قيمة أرض بلادهم وأهميتها.
لم يكن نبيل أثناء دراسته في جامعة الخليل بالطالب الذي يتخذ له عادة لا يمارس غيرها، أو اهتماما لا يغير مجالاته، بل كان مفعما بالتغيير والتجديد، يبحث عن ضالته أينما وجدها، متخذا قول رسول الله “الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق الناس بها”، فقد كان في ذات الوقت مهتما أيما اهتمام بعلوم الشريعة الإسلامية.
عشق فلسطين
إذ صار حب الشريعة يستهويه ويسيطر على أفكاره وكلامه وأفعاله وحتى سكناته، فإذا به ينتقل إلى كلية الشريعة للإحاطة بعلومها، منطلقا من مبدأ “من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين”، على علم منه أن دراسة الشريعة لن تنسيه حب الأرض والاهتمام بها، فأخذ ينهل من نبع الشريعة، ويعد التقارير والأبحاث المفيدة، مثبتا جدارته وحكمته ونفاذ بصيرته، حتى أحبه كل من عرفه، فلم يبق في الجامعة أحدا إلا وعرفه بالتزامه وسمو أخلاقه وبروحه العذبة.
نبيل ذاك الشاب المتواضع الخلوق فهم دينه على وجهه الصحيح، وعرفه حق المعرفة، فكان له منهج حياة، ترجمه في سلوكه وتميزه في شتى المجالات، فكان محبا للرياضة والشريعة والعلوم الإنسانية، بالإضافة إلى تميزه في المجالات العلمية والفنية، ليس هذا فحسب، بل كان على قدر عال من الوعي الوطني، والنضوج السياسي، إذ كان يعشق القضية الفلسطينية، فهو ابن الانتفاضة الأولى، ولم يكن يكف عن التفكير في استرجاع الحقوق المسلوبة، وتلقين العدو دروسا لن تنسى.
أدمت جرائم الاحتلال ضد الأرض والمقدسات، قلب نبيل، وكان يزيده ألماً وحرقة، تجبر الصهاينة واضطهادهم لشعبه، ما يزيد من اندفاعه لحب الشهادة في سبيل الله، دفاعاً عن أرضه وانتقاماً لشعبه.
هذه الروح الزكية ما كانت لترضى التقاعس عن والدفاع عن فلسطين والقدس، فلم تكن دافعيته للشهادة لتتاخر لحظة في المضي قدما في الدفاع عن قضيته، التي طالما كانت شغله الشاغل، ومحط اهتمامه، فاقبل نحو الشهادة شامخا، فالتحق بصفوف كتائب الشهيد عز الدين القسام، وسرعان ما شرع في تجهيز العبوات الناسفة وزرعها في المستوطنات، واحدة تلو الأخرى، مع أبطال مجموعته القسامية المجاهدة.
موعد الشهادة
في ليلة العاشر من شباط عام 2000، وقبل اندلاع انتفاضة الاقصى المبارك بأشهر معدودة، كان نبيل على موعد مع أولى شرارات تلك الانتفاضة, إذ كانت مجموعته تجهز العبوات وتزرعها في قلب المغتصبات ومدن المغتصبين، لتفجر أشلاءهم.
وأثناء انطلاقه كالمعتاد إلى مغتصبة “آرئيل “التي أقيمت بغيا وعدوانا على أراضي سلفيت، حاملا بيديه الطاهرتين عبوة مجهزة بحب الاستشهاد في سبيل الله، بقدر جاهزية المواد المتفجرة, إذ يبدو أن قوة حبه للشهادة فاقت قوة المواد المتفجرة نفسها، فإذا بالعبوة تنفجر قبل بلوغ الهدف في جسده الطاهر، وروحه تردد “وعجلت إليك ربي لترضى”.
لكن مشيئة الله أعطت نبيل فرصة لرؤية والدته قبل أن يفارق الدنيا للقاء، الذي طالما حلم به وانتظره طويلا، إذ كان يحمل مصحفه الذي لم يفارقه أبدا في جيب قميصه، موازيا لقلبه، فحفظ الله قلبه بحفظه كتابه الكريم، ليعطيه الفرصة لوداعها، ونيل رضاها ليرتاح بعدها إلى الأبد.
تعرض جسد نبيل بعد الانفجار للحروق من الدرجة الثالثة، إلا قلبه الطاهر ووجهه المشع بالنور ليقابل والدته بابتسامته المعتادة، فيطمئن قلبها المليء بالحب والحنان والرقة، فتنظر إليه والدمعة بعينيها وتقبله ..”أهناك ألم يا ولدي؟”، فيجيب اطمئني يا أمي الغالية: ليس هناك من ألم ولكن هل أنت راضية عني الآن يا أمي”.
رضى الأم
انحبست الكلمات وتجرعت الأم ألمها، ووجع قلبها على ولدها، والدموع تنهمر من عينيها “أجل يا ولدي الله يرضى عنك رضا ربي ورضا قلبي”، فيحملها السلام لإخوته وأخواته، الذين حرموا من رؤيته من قبل جهاز الأمن الوقائي، الذي ملأ المستشفى للتحقيق في الحادث.
خرجت الأم مجبرة من قبل قوات الأمن الفلسطينية، وتركت ولدها يتلو آيات القرآن الكريم، ولم يلبث بعدها إلا قليلا وقد ارتقت روحه إلى بارئها، إذ لم يكن فيه شيء يتحرك سوى لسانه الندي بذكر الله.. خرجت الأم وقد أنزل الله على قلبها الصبر والسكينة، لكن الدموع لا يمكن حبسها هذه المرة.
هكذا كان نبيل مضحيا بروحه في سبيل رضى الله ورضى والدته، ورحل الذي حاول إيقاظ أمته من سباتها الطويل، من خلال رسالته التي وقعها بدمه الطاهر لتصل إلى أبطال شعبه، الذين فهموا رسالته فلم يكونوا أقل منه شهامة وشموخا، فلبوا نداءه مسرعين منتفضين لأجل أقصاهم “انتفاضة الأقصى”، إذ كان نبيل الشرارة التي أشعلت نيران الحرية والدفاع عن القدس، رافعا شعار ” لا .. لن نستكين.