👤 محمد القيق
بين الوجود الذي يراها فيه الرئيس الأمريكي “جو بايدن” وبين رؤية العديد من الدول العربية لها كواقع اقتصادي وآخر سياسي، وهذا ما يدعم تكرار رؤية “بايدن” التاريخية إنها لو لم تكن موجودة سيخلقها، وبالتالي “وجدت لتبقى.
عدو الزمن” للعرب المقاطعين له بالأمس، والمنفتحين عليه المطبعين معه اليوم، والباحثين تحالفا معه في الغد، هي نفسها “إسرائيل” التي تضج فعال جيشها بوسائل إعلام العالم وتنفذ مذبحة القرن في إطار الوجود.
الوجود والبقاء؛ هذه منظومة استراتيجية نتيجتها كيان “إسرائيل”، وأما تكتيكها فتمحور في محطات ليست أولها وعد بلفور عام 1917، ولا ما سبق ذلك من محاولات الضغط على السلطان عبد الحميد الثاني بمنحهم فلسطين عام 1901، ولا بتشكيلات “الهاچانا” و”البالماخ” و”ليحي” و”إيتسل”، بل كلها مجتمعة وضعت استراتيجية البقاء.
ثم دخلت معادلة إعلان الدولة والحروب عام 1948 وعام 1967، وبينهما سنوات المواجهة والتحضير، ليتم تحقيق البقاء ضمن معطيات الميدان وتماشي الحالة الدولية، فباتت واقعا رأى فيه العرب أنه سرطان، وراح بعضهم يطلب من السمك أن يتجوع تمهيدا لرميهم في البحر، وآخر تمختر بين كلمات اللغة العربية ليختار خطابات ومبادرات تتمحور حول البقاء والوجود.
مرت سنوات وباتت حقيقة الوجود تتعزز كثيرا في عقلية أنظمة العرب، وهذا ترويض إضافي، ليفتح باب التطبيع من هناك في القاهرة عبر اتفاقية “كامب ديفيد” عام 1978، مرورا بوادي عربة عام 1994 وبينهما كارثة الحالة الصامتة مع سوريا، ومتوجة كلها باتفاقية أوسلو عام 1993، وفي كل اتفاقية بند رئيسي بات ديكورا وهو حل الدولتين، وأي دولتين اللتين يرمز لهما كل طرف؟!
دخلت العلاقة مرحلة جديدة بعد اتفاقيات السلام من عداء رسمي إلى مواجهة التطبيع على حساب حقوق الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين، فانطلقت الاتفاقيات على الورق وكانت بطيئة في الواقع، فلا تحقق وطن للفلسطينيين ولم تنعم “إسرائيل” بالأمن، حيث أن محطات الاستنزاف على الحدود الشمالية استمرت للعام 2000 حتى انسحبت “إسرائيل” وبقي الاستنفار، وتواصل مع المواجهة التي استمرت في انتفاضة الاقصى وما قبلها من أحداث النفق ومصادرة الأراضي في جبل أبو غنيم ومجزرة الحرم الإبراهيمي والعديد من الاعتداءات، ما أكد على أن “إسرائيل” لا تريد البقاء وحسب وإنما مسح الواقع كله على حساب أصحاب الحق.
من اللحظة الأولى لتوقيع اتفاقية أوسلو وما تضمنته من نقاط ضعف كثيرة ضد الفلسطينيين ومتاهة الوضع النهائي، وما سبق ذلك من محاولة “سحق حماس” التي باشرتها “إسرائيل” بإبعاد جل كوادرها وقياداتها من غزة والضفة إلى مرج الزهور جنوب لبنان ومعهم نشطاء وقيادات في حركة الجهاد الإسلامي عام 1992، حيث كانت تمهيدا أمنيا لترتيبات أوسلو التي تم تسويقها على أنها ولادة الدولة الفلسطينية، فما كانت من هذه الاتفاقية إلا ترتيبات أمنية وتجاهل للحق الفلسطيني، والأخطر في ذلك تحويل فصيل كامل مركزي في القضية الفلسطينية إلى شرطي ومنظم لحياة تحت حكم ذاتي، نازعين منه بند الكفاح المسلح عام 1998 بحضور الرئيس الأمريكي “بل كلينتون”، والبند المزلزل وهو الاعتراف الرسمي بدولة “إسرائيل”، وهناك تعززت لديها نظرية البقاء والوجود.
أدرك ياسر عرفات رئيس السلطة أن سلطة منبثقة عن أوسلو ستكون مقبرة لتاريخ حركة فتح وتفريغا لمنظمة التحرير من مضمونها، فلم يستمر طويلا في مسلسل المفاوضات التي كانت كلمة سر دمج “إسرائيل” في الواقع العربي، حيث قال “يتسحاق رابين” في خطابه في الكنيست عام 1995 “سنعطي الفلسطينيين أقل من دولة يديرون بها شؤون حياتهم دون حدود أو سيادة”.
حاول عرفات استغلال التواجد على أرض فلسطين لبناء رأي عام دولي، وكذلك بنية تحتية وطنية لتعزيز الحق الفلسطيني، فكانت حساباته تصطدم بإجراءات الاحتلال وترتيباته غير المتوقعة مع المحيط العربي الذي تجسد في قمة بيروت عام 2002 التي لم تتصل به بأمر أمريكي، وبقي محاصرا في المقاطعة برام الله.
في تلك الفترة كانت أمريكا و”إسرائيل” تحضران لليوم التالي لعرفات، تمثل في استحداث منصب رئيس الوزراء والالتفاف المباشر على المركزية العرفاتية في إدارة الانتفاضة والمشهد السياسي، أما جوهر الجهود الأمريكية آنذاك فكان أن “إسرائيل” وجدت لتبقى.
تمخضت عن قمة بيروت مبادرة السلام العربية الرامية للتطبيع مقابل حل الدولتين، وهنا فارقة جديدة بتوسع الاعتراف “بإسرائيل” مجانا.
تدحرجت الأحداث وباتت مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية -والتحقت بهم عديد الدول منها خليجية- معترفة “بإسرائيل”، وهذه مفارقة في مشروع أمريكا المستمر في بقاء “إسرائيل” والذي عززته بمنع الانتخابات في الدول العربية وحتى في فلسطين، بالإضافة إلى مخطط الفوضى الخلاقة وانتشار الطائفية والفتنة والانقلابات، وفي هذه الأثناء “إسرائيل” تبقى وتتوسع وتتمدد.
بات مشروع “إسرائيل” مبنيا على قبول المنطقة لها بل والاعتراف بها، فكلما زاد الاعتراف والتطبيع تلاشى الحق الفلسطيني وتقلصت مساحة الضفة وحيز الدولة المنشودة، حيث كان المستفيد دائما “إسرائيل” انفتاحا واعترافا وتحالفا وتطبيعا، والخاسر في كل جولة هو الحق الفلسطيني المهمش.
جاء حديث محمود عباس معززا لنظرية “إسرائيل”، فحديثه يعتبر هدية مجانية، وفي مراحل يعتبر استجداء من فراغ، ففي ظل خطة “دايتون” وشعار السلاح الشرعي الوحيد الذي من خلاله تمت محاربة المقاومة ونزع سلاحها وشيطنته في الساحة الفلسطينية؛ صرح قائلا عام 2012 “إسرائيل وجدت لتبقى” و”سأكون زائرا لصفد”، فما كانت نتيجة ذلك إلا مزيدا من الاستيطان والإجرام بحق الفلسطينيين في الضفة الغربية وحصار وخنق قطاع غزة وتهويد القدس.
واليوم يتم الحديث عن حل الدولتين ويراد خلط الحابل بالنابل بين هذا الوهم المباع أمريكياً والذي فيه اعتراف بدولة “إسرائيل”، وما بين الدولة الفلسطينية على حدود 1967 التي أقرها القانون الدولي، والتي تطلبها كل الفصائل الفلسطينية ولا تتضمن الاعتراف “بإسرائيل”.
هنا كلمة سر جديدة يحاول الأمريكي -وبعض الأطراف التي تعمل لحسابه في الساحة- تفعيل حل الدولتين مؤقتا لجعل حماس في زاوية محرجة، ويضعون من جديد عقبات أمام انفتاحها على العالم، بينما يتنامى رأي دولي حول الدولة الفلسطينية المستقلة والتي لا يلغي استحقاقها عدم الاعتراف “بإسرائيل”.
القانون الدولي لا يلزم الدول الاعتراف ببعضها، بل هو منظم للعلاقة والحياة فيما بينها، لبنان وسوريا بجوار “إسرائيل” ولا يوجد اعتراف “بإسرائيل”، وكلها تعتبر دولا في القانون الدولي، كذلك الهند وباكستان وكوريا الشمالية وغيرها من الدول التي بينها نزاعات.
وهنا مرة أخرى تلعب أطراف على معادلة بقاء “إسرائيل” لتفريغ مضمون الثورة الفلسطينية وطوفان الأقصى والدخول في دوامة الشرعية الدولية المحرفة، وفي هذا الإطار تواجه المقاومة والشعب الفلسطيني هذه المحاولة في ظل فاتورة دم ودمار كبيرة يسعى البعض العربي لتقزيمها بمقاسات أمنية وحياتية بمبادرة المقاسات الأمريكية؛ مسترجعة تاريخ المبادرة العربية التي نفذ فيها العرب كل شيء الا استرجاع الحق الفلسطيني، بل كان تحركهم إشارة فهمتها “إسرائيل” أن التطبيع والاعتراف بها يعني ضمنا سحق الفلسطينيين ومقاومتهم وحقهم وأرضهم، وتجاوز الطوفان بقوارب التطبيع المتجاهلة لحق الفلسطينيين وللقانون الدولي، والتفاف على وثيقة حماس عام 2017 الرامية إلى قبول دولة فلسطينية على حدود عام 1967 وحق اللاجئين بالعودة لأراضيهم، فمهمة حماس شاقة جدا ميداناً ووعياً وقانونا وفكرا وتحديا ينجح ويتراكم، ويضع القضية أمام العالم فاضحةً الإبادة والتجاهل وفارضة الحق في وجه منظومة ممتدة عميقة تعزز يوما بعد يوم بقاء “إسرائيل”.
الخلاصة؛ أنه من الطبيعي أن تحصل أي دولة على الاعتراف من الأمم المتحدة لا من دولة أخرى، فلماذا الفلسطيني الذي بلا دولة يُطلب منه بخبث أن يعترف بشرعية من يحتله كدولة يوهموننا أنها وجدت لتبقى؟!